من فضل الله على عباده ان يحاسبهم على قليل الأعمال الصالحة فربما يستصغر مسلم حسنة او عملا صالحا يراه ضئيلا لكن الله يجزي عليه عطاء ربما يفوق غيره من الأعمال الكبرة كونه لا يملك غيره.
فالعبرة ليست في كبر العمل وضخامته برغم كونه محمودا إنما بقدر الاستطاعة فرب درهم سبق مائة ألف درهم كما في الحيث فالإخلاص إذا غلف العمل الصغير صار كبيرًا مأجور صاحبه، كما ان العبرة بالمداومة على الخير لا الانقطاع عنها فقليل دائم خير من كثير متقطع.
الأعمال الصالحة:
وهذه المعاني السامية ساقتها الأحاديث حتى لا يستصغر مسلم عملا صالحا ولا يحرم إنسان من الثواب كونه لا يملك غير هذا، وقد وردت أحاديث تبين هذه المعاني السامية منها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل).
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا عمل عملا أثبته، وكان إذا مرض أو منعه شيء عن ورده قضاه من النهار.. وكان يقول كما روى مسلم عن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ: (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، أَوْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ؛ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ)... ليرغب الناس الا يتركوا أورادهم، ويحثهم على أن يداموا على أعمالهم.
قليل دائم من الخير خير كثير منقطع:
والاستمرار على الخير ولو كان العمل صغير خير من فعلا مرة ثم تركه وهذا المعنى جاء في أحاديث منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس عن عنبسة عن أم حبيبة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً في يَومٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ له بِهِنَّ بَيْتٌ في الجَنَّةِ). قالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَقالَ عَنْبَسَةُ: فَما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن أُمِّ حَبِيبَةَ وَقالَ عَمْرُو بنُ أَوْسٍ: ما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن عَنْبَسَةَ وَقالَ النُّعْمَانُ بنُ سَالِمٍ: ما تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِن عَمْرِو بنِ أَوْسٍ.
كما جاء في البخاري عن عائشة: (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: مَن هذِه؟ قَالَتْ: فُلَانَةُ، تَذْكُرُ مِن صَلَاتِهَا، قَالَ: مَهْ، علَيْكُم بما تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا.. وكانَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيْهِ مَادَامَ عليه صَاحِبُهُ)، وفي رواية عند أبي داود عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اكلَفوا منَ العمَلِ ما تطيقونَ فإنَّ اللَّهَ لا يملُّ حتَّى تملُّوا، وإنَّ أحبَّ العملِ إلى اللَّهِ أدومُهُ وإن قلَّ، وَكانَ إذا عمِلَ عملًا أثبتَه).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ لبِلالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ: يا بلَالُ، حَدِّثْنِي بأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ في الإسْلَامِ؛ فإنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ يَدَيَّ في الجَنَّةِ. قالَ: ما عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِندِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا، في سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إلَّا صَلَّيْتُ بذلكَ الطُّهُورِ ما كُتِبَ لي أَنْ أُصَلِّيَ).
حال الصالحين مع الأعمال الصالحة:
ومن يتام سيرة الصالحين يجدها ملأى بما استقوه من رسول الله صلى اله عليه وسلم؛ فقد جاء علي وفاطمة رضوان الله عليهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه خادما، فأبى عليهما، وقال لا أدع أهل الصفة لا يجدون طعاما وأعطيكم، ثم لما كان من الليل أتاهما.. قال علي: (فَجاءَنا وقدْ أخَذْنا مَضاجِعَنا، فَذَهَبْتُ أقُومُ، فقالَ: مَكانَكِ فَجَلَسَ بيْنَنا حتَّى وجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ علَى صَدْرِي، فقالَ: ألا أدُلُّكُما علَى ما هو خَيْرٌ لَكُما مِن خادِمٍ؟ إذا أوَيْتُما إلى فِراشِكُما، أوْ أخَذْتُما مَضاجِعَكُما، فَكَبِّرا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وسَبِّحا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، واحْمَدا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، فَهذا خَيْرٌ لَكُما مِن خادِمٍ)[رواه البخاري]، قال علي: "فَما تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قيلَ: ولَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قالَ: ولَا لَيْلَةَ صِفِّينَ"[رواه البخاري]. وهي ليلة المعركة بينه وبين أهل الشام.
ومن جنس هذا قوله صلوات الله تعالى عليه وسلم في الحديث الصحيح: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)[رواه أحمد وابن ماجه].
وأختم بما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (بينَما نحنُ نصلِّي معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ، فقالَ رجلٌ منَ القومِ: اللَّهُ أَكبَرُ كبيرًا، والحمدُ للَّهِ كثيرًا، وسبحانَ اللَّهُ بُكرةً وأصيلًا. فقالَ رسولِ اللَّهُ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: منَ القائلُ كلِمةَ كذا وَكذا؟ فقالَ رجلٌ منَ القومِ: أنا يا رسولَ اللَّهِ. قالَ عجبتُ لَها - وذَكرَ كلمةَ معناها - فُتِحت لَها أبوابُ السَّماءِ). قالَ ابنُ عمر: "ما ترَكتُهُ منذُ سمعتُ رسولَ اللَّهِ يقولُهُ".