يوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع وسيدها، بل هو خير يوم طلعت عليه الشمس كما أخبرنا المطفى صلى الله عليه وسلم، بل باسمه نزلت سورة في القرآن الكريم وهي سورة الجمعة، وفيها يأمرُ اللهُ عبادَه المؤمنين بالسَّعي إلى الجمعةِ بعدَ النِّداءِ، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} فيجبُ السَّعي إلى الجمعةِ إذا نُودِيَ لها، وذلكَ بالمضيِ فيها، وليسَ المرادُ سرعةَ المشيِ والجري، لا، المرادُ المضي والعزمُ في القلبِ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} اتركوا البيعَ، فهذا نهيٌ، أمرٌ مضمونُه النَّهي عن البيعِ، فلا يحلُّ البيعُ والاشتغالُ به بعدَ النِّداء الثَّاني للجمعةِ، بعدَ النِّداء الثَّاني؛ لأنَّ هذا هو الَّذي كان موجودًا في عهدِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأمَّا النِّداءُ الأوَّلُ فهذا سنَّهُ الخليفةُ الرَّاشديُّ عثمان -رضيَ اللهُ عنهُ- وأخذَ به المسلمون من بعدِه.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} سعيُكم إلى الجمعةِ إلى ذكرِ اللهِ، وذكرُ اللهِ يشملُ الصَّلاةَ والخطبةَ، فيجبُ السَّعي، ولا يجوزُ التَّأخُّرُ، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} وهو ما يحصلُ لهم من الأجرِ والثَّوابِ وتحقيقِ إيمانِهم بفعلِ ما فرضَ اللهُ عليهم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إنْ كنْتُم من أهلِ العلمِ والبصيرةِ فهذا هو الواجبُ عليكم.
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} وفُرِغَ من الصَّلاةِ، هذا هو المقصودُ، إذا فُرِغَ من الصَّلاةِ {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وهذا أمرٌ معناه الإباحةُ والإذنُ، هذا إذنٌ، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} اطلبوا التِّجارةَ واطلبوا الرِّزقَ فلا حرجَ، فلمَّا نهى عن البيعِ قبلَ الصَّلاةِ أذنَ فيه بعدَ الصَّلاةِ، ولهذا صارَ من عادةِ النَّاسِ بعدَ صلاةِ الجمعةِ أنَّهم يعرضون تجاراتهم ويعرضون السِّلعَ ويقصدون الأسواقَ، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} فلا ينبغي الاشتغالُ بالدُّنيا عن الآخرةِ، بل ينبغي للمسلمِ أن يكثرَ من ذكرِ اللهِ وإنْ اتَّجرَ وإنْ باعَ واشترى فلا يُلهِهِ ذلك، كما قالَ تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37]، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وهذا إخبارٌ عمَّا جرى في مرَّةٍ من المرَّات أنَّ الصَّحابةَ كانوا معَ النَّبيِّ في المسجدِ وهو يخطبُ بهم فسمعوا مقدمَ تجارةٍ، سمعوا بذلك، ولعلَّ السُّوقَ ليسَ بعيدًا عن المسجدِ، فلمَّا سمعوا انفضُّوا أو انفضَّ كثيرٌ منهم، ولعلَّهم كانوا في حاجةٍ، فعابَهم اللهُ بذلك {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} رأوها بأبصارِهم أو علمُوا بها {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} انصرفُوا إليها {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}.
{قُلْ} يا أيُّها النَّبيُّ قلْ لأصحابِك قلْ لهؤلاء الَّذين انفضُّوا {قُلْ} لهم {مَا عِنْدَ اللَّهِ} مِن الأجرِ والثَّواب والعطاءِ والرِّزقِ {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} سبحانَه وتعالى، فلا رزقَ إلَّا منه، وكلُّ رزقٍ يحصلُ للعبدِ فهو منهُ، وإنْ حصلَ على يدِ بعضِ العبادِ، فهو منهُ تعالى، هو الخالقُ له وهو الميسِّرُ لأسبابِهِ.
يقول د. عارف الشيخ : ليوم الجمعة عدة خصوصيات منها تحريم البيع والشراء وقت النداء لصلاة الجمعة، استناداً إلى قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» (الآية 9 من سورة الجمعة).
يقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: وذروا البيع: منع الله البيع عند صلاة الجمعة وحرمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها، والبيع لا يخلو من شراء فاكتفى بذكر أحدهما، وخص البيع بالذكر لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق (انظر تفسير القرطبي ج 18 ص 107).
وحدد الفقهاء وقت تحريم البيع والشراء بالأذان الذي يكون بين يدي الإمام (الخطيب) وبعده يقوم الخطيب بإلقاء الخطبة، أي عند الأذان الثاني يوم الجمعة (بمصطلح اليوم).
وفي الحديث: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فلما كان عثمان رضي الله تعالى عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، قال البخاري: والزوراء موضع بالسوق من المدينة. (رواه البخاري).
ويعلق ابن حجر قائلاً: وفي هذا الحديث أنه كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله تعالى عنهما أذان واحد للجمعة، وهو الذي يكون بين يدي الإمام، وبعده تكون الخطبة، ثم لما كان عثمان رضي الله تعالى عنه أحدث الأذان الثاني لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب (انظر فتح الباري ج 3 ص 44).
ومن غير شك فإن الأمر هنا «ذروا» للوجوب كما أن الفعل «فاسعوا» للوجوب، واتفق جمهور الفقهاء على أن المعنيين بتحريم البيع هنا المخاطبون بصلاة الجمعة، ولا حرج على من لا جمعة عليهم أن يبيعوا ويشتروا وقت النداء، وهم الصبي الذي لم يبلغ الحلم والمرأة، والمسافر والمريض ومن في حكمهم.
يقول ابن قدامة في المغني: وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة، وأما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين فلا يثبت حقهم ذلك، لأن الله تعالى نهى عن بيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي، ولأن تعليل البيع معلل بما يحصل به الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم (انظر المغني ج 2 ص 220).
ولكن العلماء قالوا أيضاً: إذا باع أحد هؤلاء المعذورين على من تجب عليه الجمعة فإن الإثم على الاثنين، لأن المشتري وهو من أهل الجمعة اشترى في وقت النهي، والبائع وهو من أهل الأعذار أعان على المعصية لأنه باع على من تجب عليه الجمعة، والله تعالى يقول: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان..» (الآية 2 من سورة المائدة).
وإذا قال بعضهم بأن الأسواق اليوم ومحطات البترول والمطاعم وغيرها يعمل فيها المسلمون وغير المسلمين، فبإمكان غير المسلمين أن يستمروا في عملهم لأنهم غير مخاطبين بالجمعة، قلنا بأنهم غير مخاطبين لكنهم سوف يبيعون لمن هم مخاطبون.
إذن يبقى المحرم محرماً طالما أن الاستثناء لا يتحقق بوجهه المشروع وهو أن يبيع صاحب العذر لصاحب عذر مثله.
أجل.. والفقهاء قالوا بأن التحريم ليس خاصاً بالبيع والشراء فقط، بل بكل العقود والصناعات والحرف، وقد ذكر ابن حجر العسقلاني عن عطاء: إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها، والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتاباً (انظر فتح الباري بشرح البخاري ج 3 ص 41).
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقةاقرأ أيضا:
تتبع خطوات الشيطان بمواقع التواصل حتى الوقوع في فاحشة الزنا.. كيف تتجنبه وتتوب منه؟