يعد فصل الشتاء من فصول السنة التي تتزايد فيها معدلات ضياع الوقت، عند قطاع كبير من الناس، على الرغم من أنه يشهد مواسم عديدة نشيطة، مثل موسم الدراسة، وغيرها من الأشياء التي ترتفع وتيرتها في هذا الفصل، إلا أن قصر النهار وطول الليل، يصيب بعض الناس بالاكتئاب، وكثرة النوم والكسل، والجلوس لفترات كبيرة في البيت، ومتابعة التلفاز وضياع الوقت في مشاهدة مباريات كرة القدم، وغيرها من الأسباب التي يضيع معها العمر هدرا.
بل إن الأشد أسفًا هو لعن بعض الناس لفصل الشتاء بسبب شدة البرد ومياه الأمطار، حيث يعتبرون أن هذه الأيام الاستثنائية من أيام الخير والمطر هي أيام تعوق حركتهم، وتغير مزاجهم في السهر طوال الليل على المقاهي وفي الأندية الليلية.
أيام خير
ولا يعلم هؤلاء الكارهين لهذه الأيام المباركة، أن الطين في الشتاء وترابَه الذي يرخو بفعل مياه الأمطار المنهمِرة، فيه دعوةٌ إلى ذلك الكائن الضعيف، المخلوق من هذا الطين؛ (الإنسان) بأن يرقَّ قلبُه، وتلين جوارحه لذكر ربِّه جل وعلا، وفيه تذكرةٌ للإنسان بأصل خلقته، وقدرة ربه، وفضل الله تعالى الكريم المنَّان عليه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 - 14].
وقد جعل الله تعالى فصل الشتاء آيةٌ دالَّة على قدرة الله تعالى؛ فسبحانه يقلِّب الليل والنهار، والشتاء والصيف، ليُريَنا آياتِ قدرته وحكمته، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].
ولاا ينبغي أن يكون البرد في فصل الشتاء سببا للتكاسل أو الركون إلى الاكتئاب، بل يجب على المسلم أن يكون أكثر عملا ونشاطا، وتأملا، فإنَّ في شدة البرد عبرةً وعظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، كما أن البرد فيه من الآيات الربانية التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام، ويجب أن تكون نقطة انطلاقة قوية في زيادة الوازع الإيماني لدينا، وكثر العمل، فعنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: أَيْ رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفْسٌ فِي الصَّيْفِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ))؛ رواه البخاريُّ ومسلم.
ومَن وقف عند هذا الحديث وتأمَّل كان ذلك تشجيعًا وتصبيرًا له على العبادة؛ حتى يَسلَم مِن زمهرير جهنَّم وحرِّها، ومن تفكر بشدة عذاب نار جهنم أدام الاستعاذةَ من حرِّها وزمهريرِها، واجتهد في طاعة الله سبحانه وتعالى؛ حتى يقِيَه برد جهنم وحرَّها، وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل النار وما يتعرَّضون له من عقاب أليم بقوله: ﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 24 - 26]، وقال الله تعالى: ﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ [ص: 57].
وفي معنى الغسَّاق قال ابنُ عباس رضي الله عنهما هو: "الزَّمهرير البارد الذي يَحرِق مِن برده"، وقال مجاهدٌ - رحمه الله -: هو "الذي لا يَستطيعون أن يَذوقوه من برده".
وروى ابنُ أبي الدنيا في كتابه "صفة النار" أنَّ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "يستغيث أهلُ النار من الحر، فيُغاثون بريح باردةٍ يصدِّع العظامَ بردُها فيَسألون الحرَّ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ كعبًا رضي الله عنه قال: "إنَّ في جهنم بردًا هو الزمهرير، يُسقط اللحمَ حتى يَستغيثوا بحرِّ جهنم"!
فالبرد والشتاء موعظة للمتقين، وعبرة للعالمين، وليس دعوة للاكتئاب والركون إلى البيت، خاصة وأن بداية فصل الشتاء والأمطار عند قطاع كبير من كارهي الشتاء هي من المؤسف دعوة للتشاؤم من هذه الأيام المباركة.
فقد كان كثير من الزهَّاد العابدين كان المطر والثلج والبَرَد والبرق والرعد موعظةً لهم، وتذكرة لهم بالآخرة، فيقول أحد الزهاد: "ما رأيتُ الثلج يتساقط إلا تذكرتُ تطايُرَ الصحف في يوم الحشر والنشر".
اقرأ أيضا:
الامتحان الأصعب.. 3 أسئلة تحصل علمها في الدنيا لتجيب عنها في القبرعبادة التفكر والتأمل
فينبغي الإشارة إلى أنَّ هناك عبادةً يَغفُل عنها الكثير من المسلمين، إنَّها عبادة التَفَكُّرِ في خلق الله عز وجل، إنَّها عبادة من أعظم العبادات، بها يَدخل العباد على الله، فيملَؤون قلوبهم إجلالاً وتعظيمًا له.
فهل تفكرت يوما كيف يجمع الله السحاب في السماء، ويُنزل منه مطرًا يَسقى الأرض والناسَ والبهائم، ويُخرج به من الثمرات رزقًا لنا؟ كيف يرينا البرقَ ويُسمعنا صوتَ الرعد؟ كيف يجعل السحاب والغيوم تمطر بَرَدًا وثلجًا؟ كيف وكيف وكيف؟، هل يقع في قلبك - إن نظرتَ لشيءٍ - جلالُ الله وعظيم شأنه عز وجل، حتى يقول قلبُك بكل قوة وتعظيمٍ وإجلال: "لا إله إلا الله"، يخشع بها القلب، ويذلُّ ويخضع لجلال روعة وعظمة خلق الله جلَّ في علاه؟.
فالتفكر في خلق الله تعالى يَزيد الإيمانَ، ويرفع الهمّة، ويجعل المسلم يواظب على فعل الخيرات وعمل الصالحات، قـال وهبُ بن منبِّـٍه رحمه الله: "ما طالت فكرةُ امرئ قطُّ إلا فَهِم، وما فَهِم إلا علم، وما علم إلا عمل".
كما أن التفكر في خلق الله فيه دعوةٌ للمسلم ليهجر الذنوب والمعاصي؛ إذ إنَّ التفكُّر في عَظَمَة الله وواسع قدرته وعظيم بطشه وشدة انتقامه - يورثُ القلبَ خوفًا ووجَلاً وخشيةً تحول بين المسلم وبين الشهوات.
وقد مدح الله سبحانه وتعالى المتفكِّرين في خلقه، وبيَّن أن صفة التفكر من صفات أولي الألباب؛ أي: أصحاب العقول الناضجة والأفهام النيِّرة، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].