إذا أذنب العبد، ثم تاب توبة نصوحًا، وبقي على توبته فترة من الزمن، ثم غلبته نفسه الأمّارة بالسوء، والشيطان، ونحن نعلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ونعلم كذلك أن الذنوب تمنع التوفيق، وأنها سبب في ظلمة الوجه، وتعسّر الأمور، فكيف لنا أن جوع إلى الله، وفي نفس الوقت، فإن هذه الذنوب تمنع عنا الرزق، والتوفيق، فكيف لنا أن نوفّق بين هذين الأمرين، وإذا تاب العبد، فليس بالضرورة أن يشعر بعدم التوفيق؛ بسبب هذه المعاصي، والذنوب؟
الإجابــة:
تبين لجنة الفتوى بإسلام ويب أن المُذنِب المتمادِي في معصيته، المستمرّ على ذنبه، هو الذي تمنعه ذنوبه من الرزق، ويحرم التوفيق؛ فقد روى الإمام أحمد في المسند، وغيره، وحسنه الأرناؤوط، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ.
وتضيف هذا بخلاف من تاب توبة نصوحًا، واستقام على طاعة الله تعالى، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه؛ فإنه يشعر بالتوفيق، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب، ورخاء العيش، قال الله تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا {الجـن:16}، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ {المائدة:66}، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ {الأعراف:96}، وذلك؛ لأن التوبة تجُبُّ - تمحو- ما قبلها، وأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وكون الذنوب تمنع التوفيق، أو أنها سبب لظلمة القلب، وسواد الوجه، ومنع الرزق، والتوفيق؛ فهذا بالنسبة لمن لم يتب منها، أو لم تكن توبته نصوحًا.
أما من تاب توبة نصوحًا؛ فإن الله تعالى يمحو ذنوبه، ويزيل آثارها، ويبدّل سيئاته حسنات، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا {الفرقان:68} إلى قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الفرقان:70}.
وجاء في الصحيحين، واللفظ لمسلم: عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ.
قَالَ النووي في شرح مسلم: لَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِائَةَ مَرَّةٍ، أَوْ أَلْفَ مَرَّةٍ، أَوْ أَكْثَرَ، وَتَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَسَقَطَتْ ذُنُوبُهُ.
وَلَوْ تَابَ عَنِ الْجَمِيعِ تَوْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ جَمِيعِهَا؛ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِي تَكَرَّرَ ذَنْبُهُ: "اعْمَلْ مَا شِئْتَ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ"، مَعْنَاهُ: مَا دُمْتَ تُذْنِبُ، ثُمَّ تَتُوبُ، غَفَرْتُ لَكَ.