ربما يتساءل الكثير من الناس: "لماذا كتب الله الذل والهوان على المسلمين وارتضاه لهم في هذه الأيام على الرغم من أنه سبحانه وتعالى وصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس؟"، قال تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) آل عمران.
قد تفكر في هذا الأمر كثيرا، وربما يصل بك التفكير إلى اليأس والإحباط، وقد يمتد إلى القنوط من رحمة الله.
ولكن إذا تفكرت في القرآن، فستجد أن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على المؤمنين، بأن كتب لهم العزة حال كانوا أحق بها، وحال تمسكوا بمبادئها، وقيمها، أما إذا تخلوا عن هذا الميثاق فقد ذهبت عزتهم، فحين يكون الإنسان هو الذي يتمسك بقيمه وبما عاهد الله عليه وان يكون متواضعا لله وللمؤمنين، عزيزا على الكافرين، فهذا هو سبيل عزته الوحيد، يقول الله عز وجل : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) (54) سورة المائدة.
لذلك نجد أن الذل والهوان قد أصاب المسلمين في هذه الأيام، وأصبح المسلمون تبعا لليهود والنصاري وأذلة لغيرهم، بعدما تنازلوا عن قيمهم، وتركوا عمل أيديهم الذي دلهم الله عليه فأصبحوا يأكلون من أيدي غيرهم ويلبسون منهم ويتسلحون بأسلحتهم، حتى أصبحوا أذلة عندهم، فاستباح الأعداء ديار المسلمين، واحتلوا البلدان، ونهبوا الثروات والتفوا على القرارات، وصاروا يلعبون بالمسلمين ذات اليمين وذات الشمال .
وكشف الله عز وجل أن الكسل والركون للظلم وللأعداء وموالاتهم، هي أهم أسباب المذلة والهوان، فالتقاعس عن العمل، والركون إلى الأعداء والاستدلال بأقوال حكماء الكفار وفلاسفتهم أكثر من استدلالهم بالكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، حتى في مجالات الأخلاق والسلوك؛ مما ينم عن انهزام أمام المناهج المنحرفة، وانبهار بمنجزات الحضارة المعاصرة، وافتتان بالدنيا، هو أهم أسباب ما وصل إليه المسلمون في الوقت الحاضر.
كما أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ما هو إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وهي التي أورثت التنازع والاختلاف، وهي سبب تسلط الظالمين والكافرين، وكل ما يذكر من أسباب التخلف والضعف فمرده إلى المعصية؛ لأن المسلمين لا يصلحون إلا بطاعة الله تعالى، ولا يهزمون إلا بمعصيته، وإذا كانت معصية واحدة في غزوة أحد أورثت ذلا بعد عز، وقلبت المعركة من نصر إلى هزيمة، فكيف بمئات المعاصي التي تمتلئ بها بيوتنا وأسواقنا وأعمالنا.
اقرأ أيضا:
أخطأوا في حقك وجاؤوا معتذرين.. ماذا يجب عليك؟الذنب يورث الذل
وكم في المسلمين من معاص وظلم وعدوان، وبخس للحقوق، وتضييع للأمانات، وترك للواجبات، ومسارعة إلى المحرمات، يستوي في ذلك كبار القوم وأراذلهم.
فلو أحصى المسلمون ذنوبهم، سواء فيما يتعلق بحق ربه عز وجل، أو حق أنفسهم، أو حقوق الآخرين من والد ووالدة وزوج وولد، وذي رحم وجوار، وحقوق وظيفتهم وعملهم، وحقوق رعيتهم ودولتهم وأمتهم، لو أحصوا ذلك كله لعلم أن ذنوب يوم واحد كفيلة بحجب نصر الله تعالى، وتنزيل عقوبته، وتسلط أعدائه.
فالذنوب هي التي تورث الذل، وتسبب التنازع والفشل، وتؤدي إلى الضعف والعجز، وتدفع إلى حب الدنيا وضعف الهمة للآخرة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت )).
وليس بعد كلام الله تعالى في هذا الأمر كلام، واقرؤوا إن شئتم سياق الآيات من سورة آل عمران في مصاب المسلمين في أحد وأسبابه تعرفوا أثر المعصية على الأفراد والجماعة والأمة، كيف وهذا المعنى قد قرر في غير الحديث عن أحد في عدد من الآيات: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير ﴾ [الشورى: 30].
وقد خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 80].
هذا هو الداء، والعلاج في التوبة من هذا الداء، والعودة إلى الله تعالى، أفرادا وجماعات، وإلا كان المزيد من الذل والهوان، والظلم والاستضعاف.
فمن سنة الله تعالى أن كتب الغلبة لأهل الحق والإيمان والعدل على أهل الباطل والكفر والظلم، ولكن بشرط أن يكونوا قائمين بأمر الله تعالى، ناصرين لدينه، مستمسكين بشريعته، فإن غلبهم أعداؤهم فبسبب تقصيرهم في دينهم، ومعصيتهم لربهم وهذه السنة العظيمة جاءت بذكرها آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، بل أقسم عليها الرب جل جلاله في قوله سبحانه: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40] وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾ [النور: 55].
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171-173]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾[المجادلة: 21].