يتصور بعض اليائسين والمحبطين من تحسن أحوالهم، أنهم بمجرد التوجه إلى الله بالدعاء من المرة الأولى يتحقق كلما يتمنون، وكأنهم يخاطبون "الفانوس السحري"، وليس إله عظيم يعلم سرنا وجهرنا، ويعلم مستقرنا ومستودعنا وأوجه الخير والشر من دعائنا.
فربما يصاب الكثير من الناس بحالة من الملل في الدعاء إلى الله، متصورا أنه بمجرد أن يعلن توبته وإنابته لربه تعالى، أنه سينتقل مباشرة إلى النعيم، فيرتفع عنه البلاء، وتأتيه الأموال، ويعيش في رغد من العيش.!
وقد بين الله سبحانه وتعالى في أحاديثه القدسية وآيات الذكر الحكيم، أن الإلحاح على الله في الدعاء هو سر استجابته، بل إنه ثمة اختبار وابتلاء لتوبة هذا العبد ودعائه، هل هي صادقة أم لا ، وهل هي لله أم ليست له، وكل ذلك سيجعله في ابتلاء جديد ؛ بل إن مختصر هذه الحياة وحكمتها : أنها تجربة ابتلاء واختبار .
قال الله تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الانسان:2) ؛ فإذا فهم الإنسان هذه الحقيقة ، فهو حري أن يسلم له قلبه ، وإن لم تسلم له جوارحه ، وظاهر عيشه ، أما بدون وعي ذلك والتنبه إليه ، فهو حري ألا يسلم له قلبه ، حتى وإن سلمت جوارحه.
ومن هنا جاء عن بعض السلف قولهم " لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف " وأي نعيم يقصد أولئك العظام؟ إنه نعيم القلب ، يقينه بربه تعالى ، وفرحه بطاعته ، وسعادته بالتقرب إليه، يقول الله تعالى في كتابه الكريم : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل/ 97 .
وقال الله تعالى : ( فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) الآيات ،سورة الفجر .
وتأمل معي قول الله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) الإسراء : 18-21
ويخطئ كثير من الناس في مسألة الدعاء من وجوه كثيرة ، أهما اثنين :
الأول : ظنك أن الدعاء يستجاب بمجرد أن تدعو ، وهو خطأ ؛ إذ للدعاء شروط لاستجابته ، وموانع تمنع من استجابته .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ) رواه مسلم .
والثاني : ظنك أن الاستجابة نوع واحد وهي تحقيق المطلوب في الدعاء من مال أو ولد أو وظيفة ، أو غير ذلك ، وهو خطأ ؛ إذ الاستجابة ثلاثة أنواع ، فهي إما أن تكون بتحقيق المطلوب في الدعاء ، أو أن يصرف عنه من السوء والشر بقدر دعائه ، أو يدَّخر ذلك له أجراً وثواباً يوم القيامة .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا ، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ ) .
اقرأ أيضا:
الإيثار.. إحساس بالآخرين وعطاء بلا حدودهل أنت أهلاً للدعاء في الوقت الحالي؟
تقصير المسلم في طاعته وعبادته ينبغي أن يُشعره بأنه ليس أهلاً لإجابة دعائه ، ولعل ذلك أن يدفعه لأن يعمل بطاعة الله أكثر ، ويزداد تقرباً إليه عز وجل ، فإذا اعتقد الداعي أنه جاء بما يحب الله ويرضى عنه ، وأنه أهلٌ للإجابة ولَّد ذلك عنده سوء ظنٍّ بربه تعالى ! وولَّد عنده شعور بالإحباط ، واليأس .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " بالورع عما حرَّم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح " ، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : " يكفي مع البِرِّ من الدعاء ، مثل ما يكفي الطعام من الملح " ، وقال محمد بن واسع : " يكفي من الدعاء مع الورع اليسير " …
وقال بعض السلف : " لا تستبطئ الإجابة وقد سددتَ طرقها بالمعاصي ".
وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
نحن ندعو الإله في كل كرب *** ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء *** قد سددنا طريقها بالذنوب
وقيل لإبراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟قال : لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس .
قال الله تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة} .
فإياك أن تمل من الدعاء والرجاء ، وسؤال ربك حوائجك كلها ، وإن تأخرت الإجابة ، وطال أمد الشدة والبلاء ، بل تضرع لمولاك وتذلل ، واخضع له وتبتل ، وسله راجيا باكيا ، ملحا متلهفا ، مستكينا منكسرا ، فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء ، ويجيب دعوة المضطرين .