جاء في حديث أبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – وصايا للنبي – صلى الله عليه وسلم – يوصي بها أحد الناس، والحديث هو: أن رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال له: يا رسول الله علمني وأوجز، قال: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس)).
ما أعظم ما يوجزه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت بلاغة النبي إعجازا علميا بكل المقاييس في تقديم النصيحة للصحابة وللأمة بأثرها، فقد وردت أحاديث كثيرة تدلل على هذا الإعجاز، حينما يسأله أحد الصحابة : " قل لي كلمات لا أسال أحدا بعدك فيهل" فيقول له النبي في كلمتين موجزتين لا أكثر: " قل أمنت بالله ثم استقم".
وقد سبق أن وقفنا مع هذه الوصية الأنانية، في الإيمان بالله والاستقامة، واليوم نقف أمام هذا الإعجاز الاخر للنبي صلى الله عليه وسلم.
من الوصايا العظيمة التي تضمنها هذا الحديث الشريف قوله – صلى الله عليه وسلم -: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع).
حينما تقع هذه الكلمات القليلة على مسامعك، ربما تجد زلزالا يحدث في فؤادك، كيف يلخص النبي الأكرم هذه الحالة الاستثنائية التي يتوقف عليها مصائرنا في كلمتين فقط.
فمصير الإنسان معلق بخاتمته وصلاته، فالصلاة عمود الدين، وحسن الخاتمة من الأشياء التي تحسم مصير الإنسان أمام ربه.
فحينما يقول لك النبي صلى الله عليه وسلم: " صلي صلاة مودع" فهو يشعرك عظم الصلاة ويكشف لك كيف تنهل من خيرها قبل أن يباغتك الموت.
وفي الوصية الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم ((ولا تكلم بكلام تعتذر منه)) وفيه حفظ اللسان وحمايته من كل ما يورث الندم، وكل ما يوجب الاعتذار، سواء كان هذا الاعتذار في الدنيا أو في الآخرة.
فكم من كلمات أودت بأصحابها إلى المهالك، وساقتهم إلى أسوأ المسالك، فلا يدري أحدهم إلا وقد أخرج الكلمة؛ فإذا بالدنيا تسود أمام وجهه، وإذا باللوم لا يفارقه في ليله أو صبحه، فيصبح الإنسان مِلْكَ كلمته؛ إذ أخرجها فصاراً أسيراً لها
احذر لسانك أيها الإنسـان لا يـلــدغنك أنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
فرب كلمة يتكلم بها إنسان فتحدث تغيراً واضطراباً في الكون كقول أهل الكفر والضلال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}2، "والمعنى أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام والعظام، وتفتت من شدتها، أو أن فظاعتها مجلبة لغضب الله؛ بحيث لولا حلمه لخرب العالم، وبدد قوائمه غضباً على من تفوه بها".
هذه الانتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والأرض والجبال، والألفاظ بإيقاعها ترسم حركة الزلزلة والارتجاف، وما تكاد الكلمة النابية تنطلق: (وقالوا: اتخذ الرحمن ولداً) حتى تنطلق كلمة التفظيع والتبشيع: (لقد جئتم شيئاً إداً)، ثم يهتز كل ساكن من حولهم، ويرتج كل مستقر، ويغضب الكون كله لبارئه، وهو يحس بتلك الكلمة تصدم كيانه وفطرته؛ وتجافي ما وقر في ضميره، وما استقر في كيانه"4.
وإن الكلمة لتخرج من فيِّ صاحبها؛ فتخرجه من دائرة الإسلام، وإن أخرجها مزاحاً، وهذا ما حكاه القرآن عن نفرٍ كانوا يعيشون مع النبي – صلى الله عليه وسلم – استهانوا بالكلمة فأردتهم الردى يقول – تعالى -: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ.
فعن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء؛ فرفع ذلك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فجاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله (إنما كنا نخوض ونلعب)، فقال: (أبالله، وآياته، ورسوله؛ كنتم تستهزئون؟ إلى قوله: (كانوا مجرمين)، وإن رجليه لتنسفان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو متعلق بنسعة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم.
والكلمة يقولها صاحبها فيوصم بالعار طيلة الحياة؛ فهذا أبو لهب عم النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبب كلمة سوء شتم بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يزل يُقرأ إلى قيام الساعة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}7، فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – الصفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، قالوا: ما لك؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم؛ أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؛ فأنزل الله (تبت يدا أبي لهب)."8.
وعندما سأل معاذ بن جبل – رضي الله عنه – النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أبواب الخير؛ فأخبره، ثم قال له: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه؛ قال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟؛ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ؛ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟))".
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقةالوصية الثالثة: ((وأجمع اليأس عما في أيدي الناس)):
هكذا يعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه على العفة، وعدم النظر إلى ما عند الآخرين، ويغرس فيهم القناعة، ويربيهم على الزهد في ما عند الناس فعن سهل بن سعد الساعدي قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك)).
وهذا مما لابد أن يكون عليه المسلم، زاهداً في الدنيا، لا يُقبل عليها بإشراف نفس، أو هلع وطمع قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا المال خضرٌ حلوٌ؛ فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يبارك له فيه))15، وكلما كان الإنسان صاحب طمع تطلع دوماً إلى ما عند الغير ممن هو فوقه قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -: "لأن الإنسان إذا رأى من فَضُلَ عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله – تعالى -، وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس".
فاليأس عما في أيدي الناس هي العفة التي يؤتيها الله – عز وجل – من جاهد نفسه عليها، وتعود على ممارستها ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)، وقد عدَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – المتعفف من أهل الجنة، فعن عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((…وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال))18.
ويبقى المؤمن عزيزاً ما اجمع اليأس عما في أيدي الناس، وهذا كلام جبريل – عليه السلام – لنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -: ((يا محمد عش ما شئت فانك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)).