هل بح صوتك من قبل مع إنسان لا يصلي أو إنسان يضل طريقه ويمشي في طريق المنكرات، هل أطلت جداله من أجل هدايته ولم يسمع لك، ربما يأمرك دينك بأن تتحمل وتصبر في سبيل دعوة القريب أو الصديق أو الابن، من أجل أن تنتشله من غوايته إلى هدايته، ولكن في نهاية الأمر قد لا يستجيب لك، فقد حدث هذا مع الأنبياء أنفسهم، مثلما حدث بين نوح وابنه، وبين لوط وامرأته، وبين موسى وفرعون، وبين إبراهيم وأبيه، وبين النبي صلى الله عليه سولم وبين أعمامه مثل أبو لهب وأبو طالب.
الإنسان حكيم نفسه
فأنت في هذه الحالة هنا يقف دورك على البلاغ، وليس في يدك شيئ تفعله، فقد جعل الله سبحانه وتعالى الإنسان على نفسه بصيره، ويقول الله في سورة القيامة: " بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألفى معاذيره".
فليس هناك أبصر من الإنسان على نفسه ومصلحته، فالإنسان قد ميزه الله بالعقل، وبالحكمة، وعرفه ما ينفعه وما يضره، وقال الله فيه : "مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) الإسراء".
ولكن هناك من يرفض الهداية لطلب الدنيا، ويفضل دنيته على أخرته، وهناك من ينتصر لشهوته أو سلطته فيظلم هذا ويقتل ذلك، من أجل أن يحافظ على ملكه الزائل، وهناك من يقع تحت سيطرة شهرته في جمع المال ويعتبر أن المال هو سبيله للاستمتاع، فيشتري بالحياة الأخرة الحياة الدنيا، وهو على قلبه وعقله أنفع له من وجهة نظره، وإنما كان ذلك لقلة إيمانه، أو كأنه يقول كما يقول المثل الدارج: " عصفور في يدي ولا عشرة على الشجر".
اقرأ أيضا:
الجمعة.. عيد خاص عند الموتى تتلاقى فيه أرواحهم ويفرحون بالزائرينلا تزعم دور المظلومية
لذلك لا يدعي الإنسان دور المظلومية بأنه غرر به الشيطان، وعمل على غوايته وهو إنسان ضعيف لا يملك لنفسه شيئا.
فقد حذر الله سبحانه وتعالى من هذا الدور الذي يتحايل فيه الإنسان على نفسه، فقال تعالى: " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126)الإسراء".
ويقول تعالى في سورة البقرة: " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167).
وقال تعالى في سورة المؤمنون:" حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)".
فالإنسان وإن حاول أن يجادل أو يماري عن أفعاله و أقواله التي يعلم من نفسه بطلانها أو خطأها، واعتذر عن أخطاء نفسه باعتذارات؛ فهو يعرف تماماً ما قاله وما فعله، ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقي الاعتذارات، فلا أحد أبصر ولا أعرف بما في نفسه من نفسه.
لذلك قال تعالى " بل الإنسان على نفسه بصيرة" وقوله: "بصيرة" دون غيرها من الألفاظ؛ لأن البصيرة متضمنة معنى الوضوح والحجة، كما يقال للإنسان: أنت حجة على نفسك! .
ولهذه القاعدة القرآنية مجالات كثيرة في واقعنا العام والخاص، فلعنا نقف مع شيء من هذه المجالات؛ علّنا أن نفيد منها في تقويم أخطائنا، وتصحيح ما ندّ من سلوكنا، و ما كَبَتْ به أقدامنا، أو اقترفته سواعدنا.
وترى بعض الناس يجادل عن نفسه في بعض المواضع ـ التي تبين فيها خطؤه ـ بما يعلم في قرارة نفسه أنه غير مصيب، كما يقول ابن تيمية: في تعليقه على هذه الآية: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها، وهو يبصرها بخلاف ذلك.
وأن يسعى المرء إلى التفتيش عن عيوبه، وأن يسعى في التخلص منها قدر الطاقة، فإن هذا نوع من جهاد النفس المحمود، وأن لا يركن الإنسان إلى ما فيه من عيوب أو أخطاء، بحجة أنه نشأ على هذا الخلق أو ذاك، أو اعتاد عليه، فإنه لا أحد من الناس لا أعلم منك بنفسك وعيوبها وأخطائها وذنوبها، وما تسره من أخلاق، أو تضمره من خفايا النوايا.
فمن أكبر ثمرات البصيرة بالنفس، أن يوفق الإنسان إلى الاعتراف بالذنب، والخطأ، وهذا مقام الأنبياء والصديقين والصالحين، وتأمل في قول أبوينا ـ حين أكلا من الشجرة ـ: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]}،ثم من بعدهما نوح، وموسى،في سلسلة متتابعة كان من آخرها: ما أثبته القرآن عن أولئك المنافقين الذين اعترفوا بذنوبهم فسلموا وتيب عليهم، قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] "فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين" .
اقرأ أيضا:
سورة الأنعام .. نزولها أبهج رسول الله وفند حجج المشركين ولهذا حفها 70ألف ملك بالتسبيح