كل المسلمين يعلمون أن قراءة سورة الكهف سنة مستحبة من سنن يوم الجمعة وأنها تكون نورًا للمسلم من الجمعة إلى الجمعة، ولكن ليست سورة الكهف وحدها المستحب قراءتها يوم الجمعة، حيث هناك ثمانية من السُّوَر، إمّا أنْ يقرأَها المسلم بنفسِه كسورةِ الكهف، أو يسمَعُها من إمامِ المسجدِ في صلاةِ الفجر أو الجمعة، أو يسمَعُها في خطبةِ الجمعة. وعند حصرِ هذه السُّورِ وَجَدْتُ أنها ثمان سور، منها المكيُّ وهي سورةُ السجدة وق والكهف والأعلى والغاشية، ومنها المدنيُّ كالجمعةِ والمنافقون والإنسان، فهذه ثمان سور من السور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأُ بها ويحثُّ على القراءةِ بها يومَ الجمعة.
وإيماناً مِنّا بأنّ كلَّ عملٍ يأمُرُ بهِ اللهُ أو يأمُرُ به رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ يشتَمِلُ على حِكَمٍ ومَعَانٍ يَظهرُ بعضُها للمتأمِّلِ المتدبِّرِ لأوِّلِ وهلة، ويَحتاجُ بعضُها إلى إِعمالٍ الفكرِ لاستخراجِها واستنباطِها، فسنحاولُ التدبُّرَ في هذه السورِ الثمان؛ لنرى شيئاً من أسرارِ هذه المزية والفضيلةِ التي اختصت بها . وهذه السُّورُ تَشتَرِكُ في أنها تُذكِّرُ الإنسانَ بقضايا كبرى في حياتِه يجبُ أنْ تُكَرَّر على سَمعِ المؤمنِ باستمرار، بِحَيثُ تَستَقِرُّ في نفسِه استقراراً ينفي كلَّ شك، وتُشَكِّلُ بتَكْرارِها وعيَ المؤمنِ الذي يُواظِبُ على حضورِ هذه الصلواتِ مع الجماعة.
أَغلبُ المتدبِّرين لهذه السورةِ يرون أنَّ المقصدَ الذي تدورُ حولَه آياتُ هذه السورةِ: هو الإرشادُ إلى كيفيةِ النجاةِ والعصمةِ مِن الفتنِ بأنواعها، وقد وَرَدَ في السورةِ أربعةُ أمثلةٍ للفتنِ؛ تُعتبَرُ مِن أعظمِ الفتنِ التي يُبتلى بها المرءُ في حياته: - فتنةُ الدينِ في قصةِ أصحابِ الكهف، وكيف اعتصمَ الفتيةُ بالله، وفَرُّوا من كفر قومهم، فعصمَهم اللهُ ونجّاهم. - فتنةُ المالِ في قصةِ صاحبِ الجنتين، وكيف فَشِلَ الرجلُ في الاختبارِ فمَحَقَ اللهُ مالَه. - فتنةُ العلمِ في قصةِ الخضرِ مع موسى عليه الصلاة والسلام، وكيف شَكَرَ الخضر هذه النعمة. - فتنةُ المُلْكِ في قصةِ ذي القرنين، وكيف نجَحَ ذو القرنين في هذا الابتلاء بشكرِ هذه النعمةِ العظيمةِ، واستعملَها في طاعةِ الله.
وهذه المعاني العظيمةُ يَحتاجُ المؤمنُ إلى تذكُّرها باستمرار، فشُرعَتْ قراءتُها كُلَّ جُمعة. وفي اسمها ما يدلُّ على موضوعِها ومَقصدِها، وهو (الكهف)؛ فهو عصمةٌ مادّيةٌ لمن يلجأُ إليه عادةً، وكذلك معاني وآياتُ هذه السورةِ عصمةٌ لمَن قرأها وتدبَّرَها من هذه الفتن، ومِن أعظمِ الفتنِ فتنةُ الدَّجَّال، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أدركه منكم -أي الدجّال-، فليقرأ عليه فواتِحَ سورةِ الكهف» (صحيح مسلم [2936]) وفي رواية: «من قرأ العشرَ الأواخِرَ من سورةِ الكهفِ فإنه عصمةٌ له من الدجال» (رواه النسائي في عمل اليوم والليلة [948]).
وحذَّرَ اللهُ من الشيطانِ في أثناءِ هذهِ السورةِ وأشارَ إلى مخالفتِه للإنسانِ وعداوتِه له في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
سورة ق؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها في الخطبةِ يومَ الجمعةِ في أحيانٍ كثيرة، وقد ذَكَرتْ أمُّ هشامٍ بنتُ حارثة رضي الله عنها حديثاً يدلُّ على كثرةِ تَكْرارِ النبي صلى الله عليه وسلم لقراءةِ سورة ق في خُطبة الجمعة، حيث قالت : وما أَخَذْتُ {ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، إلا على لسانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها كلَّ يومِ جمعةٍ على المنبرِ إذا خَطَبَ الناسَ (رواه مسلم [378]). وآياتُها تدورُ على بيانِ حقيقةِ البعثِ واليومِ الآخر، مع الاستدلال على اليومِ الآخرِ والبعثِ بعد الموت، والاستدلال على توحيدِ الألوهيةِ بتوحيدِ الربوبية.
تؤكِّدُ السورةُ على تذكيرِ الإنسانِ بأصلِ خِلقتِه، وتُبينُ عاقبتَه ومصيرَه في الآخرة؛ ليكونَ على حذرٍ وعلى بينةٍ من أمرِه، فقد فصَّلَ اللهُ في السورةِ كيف بَدأَ خلقَ الإنسان، وكيف انقسمَ الناسُ إلى مؤمنٍ شاكر، وكافرٍ جاحد، ومصيرِ كلٍّ من الفريقين. وأَطالَ في بيانِ مصيرِ أهلِ الجنةِ تشويقاً وتحفيزاً للمؤمنين. وأَشارَ فيها إلى نعمةِ نزولِ القرآن، ووجوبِ الصبرِ على العملِ به.
المقصدُ من هذه السورةِ: تأكيدُ تعلُّقِ النفوسِ باللهِ العظيمِ الأعلى، والحرصِ على الآخرةِ ونعيمِها، وعدمِ التعلُّقِ بالدنيا وبهرجِها الزائل، وهي تحملُ رسالةً قصيرةً مُركَّزةً، تُؤكِّدُ للمؤمنِ أنّ العُلوَّ الحقيقيَّ هو في طاعةِ اللهِ وخشيتِه {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ} [الأعلى:10]، وأنّ الشقاءَ والخسرانَ في اجتنابِ هذه النصيحةِ والتعلُّقِ بالدنيا {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى . الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ} [الأعلى:11-12].
لاحِظْ هنا كيف وَصَفَ الشقيَّ بقوله: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ}، وهذه الحقيقةُ الكبرى ينبغي أن تكون نُصبَ عينيَّ المؤمنِ في حياتِه كلِّها، تُكرَّرُ عليه كلَّ حين، ولذلك فهي تُقرأُ في الركعةِ الأولى من صلاةِ الجمعة، وصلاةِ الاستسقاء، وصلاةِ العيد.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن معاضة الشهري: ونلاحظُ مِن الأمورِ المشتَرَكةِ بين هذه السُّورِ الثمان ما يلي:
1. تأكيدُها على القضايا الكبرى في حياةِ البشر. بدء خَلْقِ السمواتِ والأرض، وبدء خلقِ الإنسان، والمنهج الصحيح في الدنيا، والمصير في الآخرة. وهي قضايا ضَلَّتْ فيها البشريةُ ضلالاً مبيناً، لا يعرفه إلا من قرأ في كُتُبِ الضالين، وعَرَفَ كيف ضَلَّ سعيُهم في الحياةِ الدنيا، وكيف هدانا اللهُ بهذا القرآنِ العظيم.
2. تَكرارُ آياتِ التذكيرِ والذَّكرِ والذكرى في السور. في سورةِ الكهفِ في قوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا} [الكهف من الآية:24]، وقولِه في آيةٍ عظيمةٍ مِحْوَريةٍ في منهجِ المؤمنِ في عبادتِه للهِ وحبسِه نفسَه عليها: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقولِه تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف من الآية:57]، وقولِه تعالى في إشارةٍ إلى سببِ نسيانِ غُلامِ موسى للحوتِ وأنه الشيطان: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف من الآية:36]، وقولِه في آخرِ السورة وهي من أدلِّ الآياتِ على مقصودِنا: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا . الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:100-101]، وفي سورةِ السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15]، وقولِه أيضاً: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة من الآية:22]، وقد تقدّم نظيرُها في الكهف.
وفي سورةِ ق ورد فيها آياتٌ تدورُ حولَ معنى الذكرى والتذكير، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، وفي آخرِها قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق من الآية:45].
وفي سورةِ الجمعةِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10].
وفي سورةِ المنافقون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، وفي سورة الإنسان: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأنسان:25]، في سورة الأعلى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ . سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ} [الأعلى:9-10]. وفي سورة الغاشية: {فَذَكِّر إنَّما أنت مُذكِّر. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22].
لاحظْ كيف عَظَّمَ وظيفةَ التذكيرِ؟! فكأنَّ رسالةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مقصورةٌ على التذكير؛ لبيان أهميةِ التذكيرِ وتَكرارِهِ على مسامِعِنا. وتَكْرَارُ التذكيرِ بمشتقاتِه وصِيَغِه في هذه السورِ له دلالتُه، حيثُ إنّ التذكيرَ يلزمُ منه التَكرارُ مرةً بعدَ مرة، وهذا يتناسبُ مع الأمرِ بقراءتِها كلِّ جمعةٍ في مواضعِها المعروفة.
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقةاقرأ أيضا:
تتبع خطوات الشيطان بمواقع التواصل حتى الوقوع في فاحشة الزنا.. كيف تتجنبه وتتوب منه؟