يصب بعض الناس جهادهم في كثير من الأوقات على التفكير في شهوات الدنيا والبحث عن متاعها، والانشغال بنسائها وزينتها وقصورها، وملاعبها، في الوقت الذي نتجاهل كل ما يدعو إلى التوبة، والتصالح مع الله عز وجل، ونهمل أي سبيل يؤدي إلى الله، خلال التركيز على متاع الدنيا القليل، فنركض في البرية كركض الوحوش ولا نحصل من الدنيا إلا ما كتبه الله لنا، ويكون الناتج الوحيد هو فقدان الراحة النفسية، والإصابة بالقلق والتوتر، وتحصيل الفقر في الدنيا والأخرة، فلا دنيا حصدنا ولا لأخرة ادخرنا.
ومع ذلك نجد الله عز وجل توابا رحيما بنا، يسهل لنا كل ما يؤدي إلى الخير من أجلنا، ومن أجل عودتنا مرة أخرى، فيقول تعالى:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)}سورة النساء.
يريد الله تعالى أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي كانوا يعيشونها إلى حياة الطهر والصلاح، في ظل تشريع عادل رحيم، وأن الذين يتبعون الشهوات وسائر المنحرفين عن سنن الهدى، فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم، فينغمسوا في الملاذ، والشهوات البهيمية؛ حتى يصبحوا مثلهم، لا فضل لهم عليهم؛ وحينئذ لا حق لهم في قيادتهم، أو هدايتهم.
.
اظهار أخبار متعلقة
العصاة والمذنبون
فلا شك أن كثيرًا من العصاة والمذنبين يصدق فيهم أنهم متبعون للشهوات في أنفسهم، والميل بهم عن الطهر والعفاف إلى الانحلال والمجون، هو جهل وسفه، فالإنسان العاقل يمضي لسعادته وليس لخراب حياته في الدنيا والأخرة.
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة , فانفلتت منه , وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فأضطجع في ظلها – قد أيس من راحلته – فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وان ربك – أخطأ من شدة الفرح ".
فحين تقع في المعصية وتلم بها فبادر بالتوبة وسارع إليها وإياك والتسويف والتأجيل فالأعمار بيد الله عز وجل، وما يدريك لو دعيت للرحيل وودعت الدنيا وقدمت على مولاك مذنبا عاصيا.
إبطاء التوبة
ثم أن التسويف والتأجيل قد يكون مدعاة لاستمراء الذنب والرضا بالمعصية، ولئن كنت الآن تملك الدافع للتوبة وتحمل الوازع عن المعصية فقد يأتيك وقت تبحث فيه عن هذا الدافع وتستحث هذا الوازع فلا يجيبك .
و كان العارفون بالله عز وجل يعدون تأخير التوبة ذنبا آخر ينبغي أن يتوبوا منه .
يقول ابن القيم: " المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها فمتى أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه التوبة من التأخير وقل أن تخطر هذه ببال التائب بل عنده انه إذا تاب من الذنب لم يبقى عليه شيء آخر" .
فإذا تكرر الذنب من العبد فليكرر التوبة، وانظر للرجل الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : أحدنا يذنب، قال يكتب عليه، قال ثم يستغفر منه ويتوب، قال : يغفر له ويتاب عليه، قال: يكتب عليه، قال :ثم يستغفر ويتوب منه، قال : يغفر له ويتاب عليه، قال فيعود فيذنب، قال :"يكتب عليه ولا يمل الله حتى تملوا".
فعلى المؤمن أن يجدد التوبة، واعلم بأن الله سيفرح بتوبتك مهما عظم ذنبك، وهو الغني عنك، ففرح الله بتوبتك إليه أعظم من فرحة هذا العبد بأوبة راحلته إليه.
، فلمَ التسويف؟! لم التسويف؟! فما من ليلة تمر علينا إلا وربنا جل جلاله يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله؛ لأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك أنا الملك! من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر.
وقد جاء في حديث البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فلما نظر النبي إلى هذا المشهد الرقراق الحاني التفت إلى الصحابة وقال: (أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بولدها).