ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية، يقول: "ما هي الحصانات والضمانات التي منحتها شريعة الإسلام لمَن هو في داخل الحرم؟".
وأجاب الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الأسبق بأن الحصانات والضمانات التي منحها الإسلام لمَن هو في داخل الحرم كثيرة ومتنوعة، ومن ذلك ما قرره القرآن الكريم في كثير من آياته أنَّ مَن دخل تلك الأماكن المقدسة وعلى رأسها المسجد الحرام كان آمنًا على نفسه وعلى ماله وعلى عرضه، والآيات التي وردت في هذا المعنى كثيرة متعددة؛ منها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [الحج: 125]، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67]؛ قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه في الحرم فلا يتعرَّض له".
وقد أقرَّت تعاليم الإسلام هذه الحرمة للبيت الحرام على وجه لا يُضَيِّع حقًا ولا يعطّل حدًّا، وزادت في تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحجّ إليه فريضة على كلّ مستطيع لها، وفي سورة آل عمران آيتان كريمتان دلتا دلالة واضحة على أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد وعلى الأمان التام لمَن احتمى به، وهاتان الآيتان هما قوله تعالى: ﴿إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وللهِ علَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96-97]، فقوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ أي: ومن التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل، ولا شك أنَّ في أمن مَن دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله.
اقرأ أيضا:
بناء مسجد أولى أم بناء بيت للأولاد؟ولقد وضع الإسلام لهذه الميزة للبيت الحرام وهي أمان من دخله وضع لها من الضوابط والأحكام ما يجعل استعمالها في الوجوه التي شرعها الله عز وجل؛ فقد اتفق الفقهاء على أنَّ مَن جنى في الحرم جناية فهو مأخوذ بها سواء أكانت في النفس أم فيما دونها، واختلفوا فيمن جنى جناية في غير الحرم ثم لاذ إليه، فقال بعضهم: إذا قتل القاتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لا يُقْتَصّ منه ما دام في الحرم، ولكن لا يُجَالس ولا يُعَامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيُقْتَصّ منه، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتصّ منه، وقال آخرون: يُقْتَصّ منه في الحرم لذلك كله كما يُقْتَصّ منه في الحلّ، وقد ميّز الله تعالى البيت الحرام بهذه الميزة وهي أنه موضع أمان للناس واطمئنانهم؛ لأنّ نعمة الأمان على رأس النعم التي منحها الله سبحانه وتعالى لعباده، إنها النعمة التي يهنأ بها المؤمنون في الجنة كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ [الدخان: 55]، وإنها النعمة التي يبشر بها الملائكة المتقين كما في قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر: 46]. وإنها النعمة التي يتحلى بها الصادقون يوم الفزع الأكبر كما قال سبحانه: ﴿وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل: 89].
وإذا كان ترويع الآمنين مُحَرَّمًا في كل مكان فهو في بيت الله سبحانه وتعالى وفي حرمه أكثر تحريمًا وأشد عقابًا وأسوأ مصيرًا، ويجب على كل مسلم أن يحرص على شيوع الأمان والاطمئنان في تلك الأماكن المقدسة، وأن يحول بين مَن يفعل خلاف ذلك بكل ما يمكنه من وسائل؛ وفي "الصحيحين" من حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: ««إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، أو يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً».