ومما اشتهر به صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، خلق الإيثار، وهو المبالغة في إكرام الغير، إلى حد تفضيلهم على أنفسهم، فكانوا يبادرون إلى مساعدة غيرهم، وتقديم ما في أيديهم إليهم من دون مقابل، مقدمين حاجتهم على حاجتهم الشخصية, حبًا في فعل الخير.
وتجسد ذلك في سلوك الأنصار مع إخوانهم المهاجرين الذين قدموا إلى المدينة ولم يكونوا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، فقد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، فاستقبلهم الأنصار، وأكرموهم.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما قدم المهاجرون المدينة نزلوا على الأنصار في دورهم، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أبذل في كثير منهم، لقد أشركونا في المهنأ وكفونا المؤنة، ولقد خشينا أن يكونوا ذهبوا بالأجر كلِّه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم به عليهم".
وكان أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكان من أسس هذا النظام مشاركتهم لهم في السكن والمأوى والطعام، كان الهدف الأساسي من هذا التشريع إرساء أسس يقوم على تحقيق الترابط بين الأنصار والمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم فرارًا بدينهم.
وكان هذا النظام سببًا للوراثة علاوة على النسب، كما في الآية الكريمة "وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا"، إلا أن هذا التشريع نسخ فيما بعد بعد أن استقر المهاجرون في المدينة وألفوها وأبقي على المؤآخاة كما في الآية الكريمة "وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".
وبلغ الأمر أن سعد بن الربيع، وكان من أثرياء الأنصار عرض على عبدالرحمن بن عوف، بعد أن آخى بينهما النبي صلى الله عليه وسلم، نصف ماله، بل وأكثر من ذلك عرض عليه أن يطلق إحدى زوجتيه، حتى يتزوج بها إن أراد، فهل هناك إيثار أكثر من هذا، هل يمكن أن يفعل إنسان هذا مع غيره أن يتنازل عن زوجته له؟!
ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئًا من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهيهم، قال: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: ما سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب أو نواة من ذهب. فقال: أولم ولو بشاة".
ولما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: ادعُ لي قومك، فقال ثابت: الخزرج يا رسول اللهّٰ؟ قال رسول الله صلى اللهّٰ عليه وسلم: الأنصار كلها. فدعا له الأوس والخزرج.
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللهّٰ علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم؟
اقرأ أيضا:
لحظات عصيبة.. هذا هو ما يحدث عند سكرات الموت فكيف تهونها على نفسك؟فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فقالا: يا رسول الله، بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول اللهّٰ، فقال رسول الله صلى اللهّٰ عليه وسلم: اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، فقسم رسول اللهّٰ صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله عليه، وأعطى المهاجرين، ولم يعطِ أحدًا من الأنصار شيئًا، إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف، وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان سيفًا له ذكر عندهم.
وذكر أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتاب "فتوح البلدان" له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ليست لإخوانكم من المهاجرين أموال، فإن شئتم قسمت هذه وأموالَكم بينكم وبينهم جميعًا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم، وقسمت هذه فيهم خاصة، فقالوا: بل أقسم هذه فيهم، وأقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".
وقيل إن هذه الآية نزلت عندما جاء رجل جائع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، وطلب منه طعامًا، فأرسل ليبحث عن طعام في بيته، فلم يجد إلا الماء، فقال: من يضيف هذا الليلة، رحمه الله، فقال رجل من الأنصار، أنا يا رسول الله، وأخذ الضيف إلى بيته، ثم قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني، فلم يكن عندها إلا طعام يكفي أولادها الصغار، فأمرها أن تشغل أولادها عن الطعام وتنومهم، وعندما يدخل الضيف تطفئ السراج (المصباح) وتقدم كل ما عندها من طعام للضيف، ووضع الأنصاري الطعام للضيف وجلس معه في الظلام حتى يشعر بأنه يأكل معه، وأكل الضيف حتى شبع وبات الرجل وزوجته وأولادهما جائعين، وفي الصباح ذهب الرجل وضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للرجل "قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة"، ونزل قوله تعالى "وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".
وقد قسم الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، خلق الإيثار إلى منزلتين: الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما يرضي الله ورسوله، وهذه درجات المؤمنين من الخلق والمحبين من خلصاء الله، والثانية: إيثار رضاء الله على رضاء غيره، وإن عظمت فيه المحن ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل، عليهم صلوات الله وسلامه.
ومن صور الإيثار العظيمة بين الصحابة رضوان الله عليهم ما حصل في غزوة اليرموك، قال عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟! ثم نادى: مَن يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدَّام فسطاط خالد حتى أُثْبِتُوا جميعًا جراحًا، وقُتِل منهم خلق، منهم ضرار بن الأزور، فلما صرعوا من الجراح استسقوا ماء، فجيء إليهم بشربة ماء، فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه، فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم -من واحد إلى واحد- حتى ماتوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم -رضي الله عنهم- أجمعين، لقد فضل كل واحد منهم أخاه وآثره على نفسه بشربة ماء.
وقد أظهرت السيدة عائشة رضي الله عنها، الإيثار في أكثر من موقف، ومنها لما طُعِن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لابنه عبدالله: "اذهب إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقل: يقرأ عمر ابن الخطاب عليك السلام، ثم سلها أن أُدْفَن مع صاحبيّ، قالت: كنت أريده لنفسي، فلأوثرنَّه اليوم على نفسي. فلما أقبل، قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين، قال: ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع، فإذا قُبِضت فاحملوني، ثم سلِّموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فادفنوني، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين".
ودخل مسكين على السيدة عائشة فسألها -وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف- فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يُهدِي لنا: شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير مِن قرصك".
وقد بلغ الإيثار حد أنه كان هناك من يؤثر الحيوان على نفسه، مقدمًا نموذجًا إنسانيًا راقيًا، وصورة نادرة من صور التعاطف.
فقد خرج عبدالله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم، وفيه غلام أسود يعمل فيه، إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام، فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه، فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلِمَ آثرت به هذا الكلب؟! قال: ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعًا، فكرهت أن أشبع وهو جائع. قال: فما أنت صانع اليوم؟! قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر: أُلام على السَّخاء! إن هذا الغلام لأسخى مني. فاشترى الحائط والغلام وما فيه مِن الآلات، فأعتق الغلام ووهبه منه.
اقرأ أيضا:
كيف أستثمر فراغي في طاعة الله.. تعرف على أهم الوسائل؟