فطن الصحابة رضوان الله عليهم، إلى أن السعادة الحقيقية في فعل الخيرات، لذلك كانوا يسارعون إليها، بعدما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم، أن السعادة ليست في شهوة يتم تحصيلها، ولكن بقيمة ما تقدمه للناس، فقد كان فعل الخير والمسارعة إليه هو فعل الأنبياء جميعا، لذلك وصفهم القرآن الكريم بقوله ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ [الأنبياء: 90]
فقد ذكرتِ الآياتُ نجاة نوح، وإبراهيم، وتسخير الجبال مع داود، والملك العظيم الذي آتاه الله سليمان، ثم استجابة الله -تعالى- دعاء زكريا وأيوب، بعد هذا كله، جاء قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾؛ لتكونَ بمنزلة التعليل لما قبلها من نصرٍ واستجابة دعاء.
فإذا أردت أن يستجيب الله دعاءك، فافعل الخير، فالمسارَعة في الخيرات تعني الحِرْص وصَرْف الهمَّة، والجد لفعلها، لذلك لقد كانتْ هذه المسارَعة سببًا في إكرام الله لهم، فمَن تعرَّف إلى الله في الرخاء، عرفه الله في الشدة، والله -تعالى- في عوْنِ العبد ما دام العبدُ في عون أخيه.
وقد كان فعل الخير هو الشيء الوحيد الذي نصح به النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الحصول على السعادة في الدنيا والأخرة، وجعل النبي على رأس فعل الخير مساعدة المحتاجين والعطاء دون مقابل سواء من خلال ابتسامة أو مساعدة بسيطة أو مد يد العون لمن يحتاج مساعدة طيبة هو أقرب لنفس الإنسان.
لماذا خرج النبي من المسجد مسرعًا؟
كان من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس مكانه بعد انتهائه من صلاته بعض الوقت، يستغفر الله، لكن هذه السُنَّة تغيرت في يوم من الأيام، إذ قام النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بعد سلامه وانتهائه من صلاة العصر مسرعاً متجهاً إلى بيته.
اقرأ أيضا:
أدرك عمرك قبل فوات الأوان بهذه الطاعاتفما السبب؟
يقول عقبة بن الحارث رضي الله عنه: "صَلَّيْتُ وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلَّم ثم قام مسرعاً، فتخطَّى رقاب الناس (مرَّ بهم وهم جلوس) إلى بعضِ حُجَرِ (جمع حجرة) نسائه، ففَزِعَ الناس من سرعته! فخرج عليهم، فرأى أنهم عَجِبوا مِن سُرْعته، فقال: ذَكَرْتُ شيئاً من تِبْرٍ (ذهب أو فضة) عندنا، فكَرِهْتُ أن يَحْبسني، فأمرتُ بقِسْمَته) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (كنت خلَّفت (تركت خلفي) في البيت تِبراً من الصدقة، فكرهتُ أن أبيِّته (أتركه حتى يدخل عليه الليل)، فقسمتُه".
وذكر البخاري هذا الموقف والحديث النبوي تحت باب: "من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم" عقب باب: "مكث الإمام في مصلاه بعد السلام".
فما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، وحرصه على التقلُّل منها، وهذا الذهب الذي كان في بيته لم يكن يملكه، ولكنه كان من أموال الصدقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى دهشة أصحابه واستغرابهم من فعْله، بيَّن لهم حِكمة فِعله، وسبب تصرُّفه الذي شاهدوه واستغربوه من خروجه مسرعاً بعد انتهائه من الصلاة مباشرة، فقال: (ذَكَرْتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكَرِهْتُ أن يَحْبسني، فأمرتُ بقِسْمته).
قال ابن رجب: "فيه دليل على أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهل لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تعجبوا من سرعته في هذه المرة، وعلم منهم ذلك، فلذلك أعلمهم بعذره وهو المسارعة في تقسيم الصدقات على المحتاجين".
فالاستعجال هنا ليس مذموماً ، بل هو محمود، فالاستعجال المحمود يكون في أمور الخير وأعمال الآخرة، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133)، ومن الاستعجال المحمود: الاستعجال في أداء الحقوق إلى أصحابها، ولذلك لما تذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذهب الصدقة عنده في بيته خرج بعد الصلاة مسرعاً، وقام بتقسيمه وتوزيعه، وقال: (كنت خلَّفت (تركت خلفي) في البيت تِبراً من الصدقة، فكرهتُ أن أبيِّته (أتركه حتى يدخل عليه الليل).