وتضرب سورة يوسف أكبر مثال للعفو عن المقدرة ، عندما استخدمه سيدنا يوسف صاحب السلطات الواسعة تجاه اخوته الذين ارتكبوا جريمة نكراء عبر العصور، جريمة خطف الأطفال، جريمة تعريض النفس البشرية للموت، جريمة حرمان الأسرة من ابن لها، جريمة الكذب الذى كذبوه على أبيهم يعقوب ، جرائم كثيرة في حادثة اختطاف سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لكنه وهو في سدة الملك، وصاحب سلطة، "قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".
ومن البديهي الإشارة بحسب منشور للدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف الي وجود تلازم بين العفو والصفح "فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" خلق أمرنا الله سبحانه وتعالى به، ولكن هناك أناس يتشبثون بإشفاء الصدر من الغيظ، وربنا سبحانه وتعالى يقول: " وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"
وفي كثير من الأحوال، وفى مناطق كثيرة، نذهب للصلح بين الناس، الحقيقية أن كثيراً منهم يستجيب ويعفو ويصفح، ويمتثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " ما من جَرْعَةٍ أعظم أجرًا عند الله، مِن جَرْعَةِ غَيْظٍ كظمها عبد ابتغاء وجه الله " يعنى يوجد عندي غيظ، ولكن قال : " لا تغضبْ ، ولَكَ الجنَّةُ " يرد الغضب على القلب لكن " لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" .
بل ان سيدنا يوسف بحسب منشور الدكتور جمعة قد ضرب أعظم الأمثلة عندما قال : "قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ " هذا يولد خير، أخواته اعترفوا بالذنب أولاً، ثم تابوا من الذنب ثانياً، ثم اعتذروا عن الذنب ثالثاً، ثم أقلعوا عن الذنب وحسنت توبتهم، حتى قيل أنهم هم الأسباط الذين جاءوا بعد ذلك في قصة سيدنا موسى،ومن ثم فالعفو عند المقدرة أمر مهم، هو في الحقيقة العفو مطلقا، سواء كانت عندك سلطة ومقدرة لاستيفاء حقك، أو لم يكن عندك ذلك، وبعض الناس يقول أنا سأتمادى في رفع الخصومة والقضية إلى القاضي حتى إذا ما حكم عفوت، حتى يعلم أنه عفو عند المقدرة،.
ومن الثابت أن هناك أمور في الشريعة السنة فيها خير من الفرض كما يؤكد د. جمعة ، منها : أن تعفو حتى لو لم تكن قادراً، لكن أن تعفو وأنت قادر هذا شأنه عظيم، أعظم منه أن تعفو وأنت غير قادر لأنه عفو من القلب وليس عفو فيه منّة وتفضل على من أساء إليك.
ومن الأمثلة علي تفوق السنة علي الفرض في بعض الأحيان كلمة : السلام، "السلام عليكم" هذه سنة ولكنها أعظم ثوابا عند الله من " وعليكم السلام" التي هي فرض، فالسنة هنا أفضل من الفريضة بالرغم من أن الفريضة دائما تكون هى الأفضل، إنما الفريضة أفضل إلا في فروع معينة وجدنا فيها أن السنة - مع أنها سنة - تكون أعلى وأبر من الفريضة.
ومنها : العفو عن الدين؛ أنا دائن لشخص مدين، ولا يستطيع أن يسدد "فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ" إذًا وجب عليَّ أن اعطيه فرصة وفترة يسدد فيها الدين، نفرض أنني قد عفوت عن الدين واسقطته عنه، هذا أعظم من الإنظار- يعنى أوجله وأصبر عليه- الإسقاط هذا سنة ، وهو أعلى وأثوب من الفريضة التي هي الإنظار،
إذًا فهناك بعض الحالات يكون فيها ما نظنه أنه سنة أعظم مما نظنه أنه فريضة، ومن هنا كان الدعوة إلى العفو المطلق، أو العفو عند المقدرة - لا بأس - أمر مهم أيضا لنفسية الإنسان وللاجتماع البشرى، وللتربية الأخلاقية لأبنائنا، فيجب علينا أن نهتم بهذا جدا حتى لا نفسد في الأرض، وحتى يشيع الخير بيننا.
قد جاء في القرآن الكريم :"إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فقال رضوان لأهل العفو ما صبركم قالوا إذا أوذينا صبرنا وإذا أسىء لنا فقال رضوان ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولا أنتم تحزنون. وقال تعالى فمن عفا وأصلح فأجره على الله.ومن الثابت أن من عفا وأصلح فجزاه الله خيرًا، العفو طيب، إذا عفو جزاهم الله خيرًا، الله يقول: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى "البقرة:237"، ويقول: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ الشورى:40"، ويقول النبي ﷺ: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا يدعو له بالشفاء والعافية ويعطيهم حقوقهم، عليه أن يعطيه حقوقهم، لا يظلمهم، يدعون له، وعليه أن يعطوه حقوقهم؛.
ومن ثم فالعفو عند المقدرة من شيم الكرام، من شيم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فها هو نبيُّ الله يوسفُ الصديقُ عليه السلام، يعفو عن إخوته الذين حاولوا قتله، بل رموه في البئر، وفرقوا بينه وبين أبيه صغيراً وحيداً فريداً، فعفا عنهم عند القدرة على الانتقام منهم، قَالَ سبحانه وتَعَالَى عن يوسف عليه السلام أنه قال: " قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يوسف: 92
وهذا الخلق النبوي تكرر بشكل واضح في خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن قريش وأهل مكة، الذين آذوه وعذبوه وطردوه، وأخرجوه من أرضه ووطنه، فلما فتح مكة لم ينتقم منهم، ولم يعاملهم بما عاملوه به، بل عفا عنهم وأكرمهم.
بل أن العفو عند المقدرة فيه فضيلة العزة والشرف للعافين كما في الحديث من أبي هريرة " «ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ، إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلَا رَفَعَهُ اللّهَ» ُ.
ولا يغيب عنا في هذا المقام أن العفو عند المقدرة له فضائل عظيمة منها أنه يشمل الدفع بالتي هي أحسن بشكل يزيل العداوة من المعتدي حتى يستحي من نفسه ويصير صديق حميم كما قال تعالى "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"
اقرأ أيضا:
بشريات كثيرة لمن مات له طفل صغير.. تعرف عليها ومن فضائل العفو عند المقدرة أنه كذلك يجلب للمرء أن يعفو الله عنه لعفوه لإخوانه " {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "النور: 22من هنا علينا أن نشير ان للعفو عن القدرة فضائل عديدة منها أنه خلق نبوي أصيل داوم علي فعله أنبياء الله منذ ان خلق الله الأرض ومن عليها إلا ان يرثها الله سبحانه وتعالي بشكل يجعلنا نكثر من اغتنام هذه الطاعة في هذه الأيام المباركة فإذا كانت فضائل هذا الخلق فما بالنا باستخدامه في شهر القرآن وشهر القبول والعتق من النار فما أعظمه من أجر .