بعض الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، قد تؤدي إلى يأس وقنوط الكثير من الفقراء، بل ربما يندفع بعضهم والعياذ بالله إلى الكفر، نتيجة بعض هذه المشاهد التي يظهر فيها الأغنياء في حالة من التمرد والجحود لنعمة الله عز وجل، حينما ترى بعضهم يشتري لوحة بمئات الآلاف من الدولارات، وبعضهم يشتري خروفًا بما يقارب المليون ريال، وبعضهم من يشتري كلبًا نادرًا بما يزيد سعره عن مائة ألف دولار، أو فستانًا بعشرة آلاف دولار، أو تيشرت لاعب أو حذاءه في مزاد يتجاوز ثمنه المليون دولار، وربما توقيعه فقط وليس حذاءه، وبعضهم وبعضهم، دون أن يراعوا مشاعر الفقراء الذين تتوقف حياتهم على دراهم معدودة لكي يقتات بها أبناؤهم، ويعالجوا بها مريضهم.
ماذا يحدث لك وأنت تنفق مئات الآلاف من الدولارات على هذه الأشياء التافهة، هل استفدت شيئا من تيشرت هذا اللاعب أو هذا الخروف، وهذا الكلب، وهذه الساعة المرصعة بالألماس، وهل تصورت نفسك فقيرًا تحتاج لبعض الجنيهات أو الدراهم من أجل أن تسد جوعك، أو تخفف من ألمك في الوقت الذي تسرف فيه وتتمرد على انعم الله.
فقد أرشد الإسلام للاعتدال في الإنفاق، وهو ما وصف الله به عباد الرحمن المقربين إليه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، وما أمر به في وصايا الحكمة من سورة الإسراء: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء:29).
وحضت قصة يوسف في القرآن على تقليل الاستهلاك في السنوات السبع الخصبة حتى يكون هناك مجال للادخار: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} (يوسف:47)، ثم تقليل الاستهلاك مرة أخرى في السنوات السبع العجاف، بحكم الضرورة وتوزيع المدخر على سنوات الأزمة جميعاً: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (يوسف:48).
فانظر إلى الخليفة عمر بن الخطاب حينما جاء أحدهم يعرض عليه تزيين جدران المسجد وفرشه بالسجاد، فقال له بطون المسلمين أولى.
وقد هم أمير المؤمنين عمر الفاروق في عام المجاعة، أن يضيف إلى كل بيت عندهم بقايا الخصب مثلهم في العدد، ممن ساء حالهم، ونضبت مواردهم، وقال: "إن الناس لا يهلكون على أنصاف بطونهم"، وهو ما أومأ إليه الحديث النبوي: "طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة".
كيف تنظم مصروفاتك ولا تجعلها حسرة عليك يوم القيامة؟
الإنفاق على النفس والأهل:
لا يجوز لصاحب المال أن يغل يده عن الإنفاق الواجب على نفسه وأهله شحاً وبخلاً، أو تقشفاً وتزهداً، فالإسلام ينهى عن الشح ويحذر منه، ويجعله مصدراً لفساد عريض، وفي الحديث: "إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، ولما سأله أحد الصحابة: أنه أولع بالجمال، ويحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنه، فهل هذا من الكبر؟ قال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس".
كما لا يجوز له أن يبخل بالحقوق الواجبة عليه في ماله، سواء، أكانت حقوقاً ثابتة، كالزكاة ونفقات الوالدين والأقارب الفقراء، أم حقوقاً عارضة، كقرى الضيف، وإعارة الماعون، وإغاثة المضطر، والإعطاء في النوازل التي تنزل بالأمة أو ببلد هو فيها، كالحروب والمجاعات والحريق، وكفاية فقراء، بلده بما لا بد لهم منه من حاجات المعيشة، من مطعم وملبس ومسكن وعلاج، ونحو ذلك.
الموازنة بين الدخل والإنفاق:
كما يجب عليه أن يوازن بين دخله وإنفاقه، فلا ينفق عشرة ودخله ثمانية، فيضطر إلى الاستقراض، وتحمل منة الدائن، والدين همّ بالليل ومذلة بالنهار، وكان النبي، يستعيذ بالله من المغرم (الدين)، معللاً ذلك بأن الرجل إذا غرم حدّث فكذب، ووعد فأخلف، كما في صحيح البخاري.
اقرأ أيضا:
الجمعة.. عيد خاص عند الموتى تتلاقى فيه أرواحهم ويفرحون بالزائرينالاعتدال في النفقات:
وإذا كان الاعتدال مطلوباً في نفقة الفرد على نفسه، فهو مطلوب كذلك في النفقات الحكومية، قال أبو هريرة: "خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير". وقالت عائشة: "ما شبع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعا، ولكنه كان يؤثر على نفسه".
ورفض أن يتخذ فراشاً، وكانت وسادته حشوها ليف، ونام على الحصير حتى أثر في جنبه، وتوفى وهو يلبس كساء ملبداً وإزاراً غليظاً. وكذلك كان أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - حتى قال عمر: ما أنا وهذا المال - مال الدولة - إلا كولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
وهناك جهات ينفق فيها المال بغير حساب، وبدون تقيّد، ولا يكاد يسائلها أحد، مثل الإعلام والرياضة، على حين يقتر كل التقتير، ويضيق أشد التضييق على الفقراء، الأمر الذي ينشر الحسد والحقد.
لذلك أوجب الشرع الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، وتقديم الضروري منها على الحاجي، وما فيه مصلحة الفقراء والمستضعفين على ما فيه مصلحة الكبراء والموسرين.