ومن العبادات الرائعة التي ربما لا ينتبه لها البعض الانكسار بين يدي الله وأن ترى نفسك صغير مهما كبرت وأنك انت المذنب فلا ترى لنفسك فضل على غير وإنما الفضل لله أن أعطاك حين شكرت وسترك حين عصيت.

هذه العبادة من العبادات الجميلة جدا لأنه لو عبدت الله باستكبار ورأيت أن السبب في الخير أنك حصلت ما حصلت بنفسك مجردا ردت إليك عبدتك مهم عظم قدرها.

وخير المنكسرين بين يدي الله تعالى رسول الله؛ ففي الإمام البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (يا رسولَ اللَّهِ علِّمني دعاءً أَدعو بِهِ في صلاتي. قالَ: قُل: اللَّهمَّ إنِّي ظلَمتُ نَفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ فاغفِر لي مغفرةً من عندِكَ وارحَمني إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ). وكان صلى الله  عليه سلم يكثر من الاستغفار برغم أنه مغفور ذنبه؛ فقد جاء في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة. وعن ابن عمر أنه كان قاعداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم، حتى عدَّ العادُّ بيده مائة مرة. رواه أحمد وصححه الأرناؤوط، فكثرة استغفاره صلى الله عليه وسلم وردت في أحاديث كثيرة صحيحة، ويقصد باستغفاره أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. قال النووي في شرح مسلم: وَاسْتِغْفَارُهُ لإِظْهَار الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ وَمُلَازَمَةِ الْخُشُوعِ وَشُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُ.

ومن انكسار النبي لله ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُنَجِّيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ، قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا).

أحوال الصالحين كثيرة مع هذه العبادة فهذا سفيان الثوري لما احتضر دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة، فقال له حماد: يا أبا عبدالله! أليس قد أمنت مما كنت تخافه، وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة!! أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك.

في الزهد أيضا عن قتادة: قال عيسى بن مريم عليه السلام: "سلوني فإني لين القلب، صغير عند نفسي".

وفيه: "كان داود عليه السلام ينظر أعمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم (أكثرها تواضعا ومسكنة)، ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين".

وقال بكر بن عبدالله المزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم".

وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل".

وقد ذكر جعفر بن زيد: أنه راقب صلة بن أشيم ليلة، فصلى الليل حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: "اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار فإن مثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة".

والصور على ذلك كثيرة أكثر من أن تحصى ويكفينا فقط الإشارة لمعنى هذه العبادة الجليلة بأن نعبد الله تعالى بتواضع وإخلاص وأن ننسب كل فضل له سبحانه ولا تحب ان تذكر وتكون غايتك رضا الله لا غير وترى نفسك مقصر يدفعك هذا الإحساس لمزيد من اعمل والإصلاح ولا تق فقط عن مرحلة جلد الذات وبهذا تكون حققت الانكسار بين يدي الله.

ومن وسائل المعينة على تحقيق عبادة الانكسار بين يدي الله الخلوات والمنجاة في ظلام الليل صدقات السر  {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}

والخبيئة وهي أن تحرص على عمل صالح بينك وبين الله لا يطلع عليه غيرك لهذا حرص الصحابة والسلف الصالح على إخفاء أعمالهم عن أعين الناس خوفاً من أن يفسدها الرياء تقرُّباً إلى الله؛ فقد جاء عن الزبير بن العوّام رضي الله عنه أنه قال: "من استطاع منكم أن يكون له خِبْءٌ من عمل صالح فليفعل". وقد عزى الإمام الذهبي إلى إبراهيم الحَرْبي قوله: "كانوا يستحبّون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجتُه ولا غيرها".