روي عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال: "إذا جمَع اللهُ الخلائقَ، نادى منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقُوم ناس، وهم يسير، فينطلقون سراعًا إلى الجَنَّة، فتتلقَّاهم الملائكة فيقولون: ما فضْلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صَبرْنا، وإذا أُسيءَ إلينا حَلمْنا، فيقال لهم: ادخلوا الجَنَّة، فنعم أجر العاملين".
كمل إيمانك
يعد الحلم والصبر على الأذى وعلى الظلم، من أكثر الصفات التي تدخل أصحابها الجنة، فقد يكون الإنسان قادرا على رد مظلمته، ولكنه يحتسبها عند الله، خاصة إذا كان حلمه خالصا لوجه الله، ووأدا لنار الفتنة، فكم من مشكلة أو مظلمة نتعرض لها في العمل او البيت، او مع الزوجة، أو مع الأقارب، ونغض الطرف عنها، رغم أثرها النفسي على قلوبنا وصدورنا، في ظل اكتظاظ أيامنا بالمشكلات التي لا تنتهي.
وبالرغم من الإنسان أحوج ما يكون لحالة من الاستقرار والسلام النفسي في هذه الأيام الصعبة، تجد الكل يتكالب عليك، سواء كان من مطالب الزوجة والأبناء التي لا تنتهي، نظرا للظروف الاقتصادية، وتزايد احتياجات البيوت، وتربية الأبناء، أو الضغط علينا في العمل بتكليفنا ببعض المهام الوظيفية الزائدة على إمكاناتنا، أو في الشارع أو مع الجيران.
ولا يجد المؤمن المحتسب امام هذه الضغوط، إلا الحلم، رغم صعوبة ذلك على النفس، وأثره في صدر كل واحد منا، فالحلم خلق عظيم مِن أخلاق الإسلام، وهو ضبطُ النفس عند الغضب، وكفُّها عن مقابلة الإساءة بالإساءة، مع تحكيم المسلم دينَه وعقلَه عند إيذاء الآخرين له، رغم قُدرته على ردِّ الإيذاء بمثله.
فلولا الحلم، لأكلت الناس بعضها بعضا، ولعجز أهل الصبر عن تحمل أذى الغير سواء كان قريبا أم غريبا عنه.
فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام، أشد الناس حلما وصبرا على أذى المشركين، وكان ممن كان سيدا وكريما بن الكرماء، وعنده من النسب ما يذود به عن نفسه، ولكنه كان صابرا.
والحليم اسم مِن أسماء الله الحُسْنَى، يقول الإمام أبو حامد الغزالي في بيان معنى الحليم: "الحليم هو الذي يُشاهد معصية العُصاة، ويرى مخالفة الأمْر، ثم لا يَستفزُّه غضبٌ، ولا يعتريه غيظ، ولا يحمله على المشاركة إلى الانتقام، مع غاية الاقتدار".
والحلم من صفات الأنبياء، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]، كما وَصَف إسماعيل عليه السلام بالحِلم في قوله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 101].
كما وَرَدَتْ آيات قرآنية تمتدح الحلم، وتدْعو المسلمين إلى ضرورة التحلِّي به؛ قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].
وقال عز وجل: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنبنماذج نبوية وصحابية من الحلم
وخير من تمسك بالحلم هو النبي عليه الصلاة والسلام، وعلمه لأصحابه، وللمسلمين أجمعبن، فعن أنس بن مالك قال: كنتُ أمشي مع رسول الله وعليه بُرْدٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدرَكَه أعرابيٌّ فجذبه بردائه جذبة شديدة، حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرَت بها حاشية البُرد؛ من شدة جذْبته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفتَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أَمَر له بعطاء.
فانظر لهذا الأعرابي وهو يتعرض لرسول الله، و يتطاول عليه بيده فيجذبه هذه الجذبة العنيفة، التي جعلَت رقبة النبي تحمرُّ، وَيتطاول عليه بلسانه، فيقول له: احمِل لي على بعيريَّ هذين مِن مال الله الذي عندك؛ فإنك لا تحمل لي مِن مالك، ولا مِن مال أبيك.
ومع ذلك حِلم رسول الله اتَسع لمثل هذه المواقفِ التي تَطيش فيها عقولُ ذوي الألباب، ويقول للأعرابي في هدوء وأناة: ((المال مال الله، ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلتَ بي))، ويرفض الرجل أن يقتصَّ منه رسول الله ، وأن يجذبه كما جذبه، ويبتسم الرسول للأعرابي؛ لأنه ما أراد حقيقة القصاص؛ وإنما أراد أن يُنبِّهه إلى خطأ ما فعَل، ولا يكتفي النبي بحِلمه؛ إنما يمنحه ما طلب، فيأمر أحدَ الصحابة أن يحمل له على بَعيريه؛ على بعير شعيرًا، وعلى الآخر تمرًا.
كما دعا النبي إلى التحلِّي بهذا الخُلق الفاضل في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة؛ فعن سهل بن معاذ، عن أبيه؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: ((مَن كَظَم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه، دعاهُ اللهُ يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يُخيِّره مِن أيِّ الحُور العين شاء)).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه، آواه الله في كنَفِه، وسَتَر عليه برحمته، وأَدخلَه في محبَّته: مَن إذا غضب فَتَر))؛ (رواه الحاكم).
وورد أنَّ رجلًا سبَّ الأحنفَ بن قيس وهو يُماشيه في الطريق، فلما قرُب مِن المنزل، وقف الأحنف بن قيس وقال: يا هذا، إن كان بقي معك شيء، فقُله ها هنا؛ فإني أخاف إنْ سمعَك فتيانُ الحيِّ أن يؤذوك.
وقال علي رضي الله عنه: (من لانتْ كلمتُه، وجبتْ محبَّتُه، وحِلْمك على السفيه، يكثر أنصارك عليه).
وقيل لقيس بن عاصم: ما الحِلم؟ قال: (أن تصِل مَن قطعك، وتعطي مَن حرَمك، وتعفو عمَّن ظلمك).
وقال الحسن رضي الله عنه: (المؤمن حليم لا يَجهَل وإنْ جَهِلَ الناسُ عليه)، وتلا قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].
وشتم رجلٌ الشعبيَّ، فقال له: (إنْ كنتَ صادقًا فغفر الله لي، وإنْ كنتَ كاذبًا فغفر الله لك).
وأسمعَ رجلٌ عمرَ بن عبد العزيز بعضَ ما يكره، فقال: (لا عليك؛ إنما أردتَ أنْ يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليومَ ما تناله مني غدًا، انصرف إذا شئتَ).
اقرأ أيضا:
كيف تشكر الناس بطريقة تجعلهم أسرى في خدمتك؟