ليس هناك ضغوط نفسية توازي الضغوط التي يعيشها الإنسان في كبره وعجزه، فكما يقول الناس في القديم: " الكبر عبر"، ويقول الله تعالى في كتابه: ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) [الحج : 5]، فالإنسان يمر بمراحل مختلفة في حياته؛ فمن ضعف لا يملك لنفسه حَولًا ولا قوة إلى أن يشتدَّ عُودُه ويبلُغ أشُدَّه، ثم ما هي إلا أعوامٌ قليلة، حتى يصِيرَ إلى الضعفِ مرةً أُخرى، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54].
والإحساس والشعور بالعجز وبالكبر من أصعب المشاعر التي يشعر بها الإنسان، حينما يصير كلاً على ابنه، بعدما كان هو من ينفق عليه، ويحميه، فقد أصبح الأب الآن ضعيفًا لا يقوى على أن يتناول طعامه، وهو لا يستطيع أن يدخل الخلاء بنفسه فيحتاج إلى من يساعده، ومن ينظفه، ومن يقف بجانبه بعد أن أصابه الهرم، وأصبح شيخا لا يملك لنفسه شيئًا.
إلا أن الأصعب حينما تعيش هذا الكبر والعجز بين قسوة الأبناء، الذين يردون جميل أباهم قسوة وجحودًا، فيرى الأب من يتأفف لمجرد أنه يناوله كوبًا من الماء، وهناك من ينهر أباه، إذا تبول على نفسه لعدم قدرته على دخول الحمام، وهناك من يوجه لأبيه اللكمات لمجرد أنه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فيتمنى الابن موت أبيه، غير مكترث بما سيكون من فقدان السند والدعوة الصالحة بموت الأب، وفناء البركة من حياته.
فكثير من الناس عاش أو رأى على الأقل هذه اللحظات ولو عند غيره من الجيران والأقارب، كم رأينا ابنا ينهر أباه ويهينه في كبره، فتذكر أيها الابن أنك سترى أباك في يوم من الأيام شيخًا عجوزًا غير منطقي في تصرفاته كأن يتحدث بكلمات غير مفهومة، وترتعش يداه فيسقط طعامه على صدره، وتفوح رائحة غير طيبة نتيجة قلة استحمامه لأنه ربما يبول على نفسه أو لم يجد من ينظفه، فوقتها تذكر أنه من كان يطعمك وينظفك ويدللك وأنت صغير.
اقرأ أيضا:
كيف توازن بين "الخوف والرجاء" فى علاقتك مع الله؟فأبوك في هذه الأيام ينتظر الموت، وهو يعرف أنه أصبح ثقيلاً، وربما يعيش محملاً بهم ثقله عليك، فلا تنهره، وكن معه، واستر عورته كما ستر عورتك، وادع له، فقد كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يُوصِي بالرحمةِ بالضُّعفاء، صِغارًا وكِبارًا، أطفالًا وشيُوخًا، ويحُثُّ على ذلك بقولِه وفعلِه.
ففي “سنن الترمذي” بسندٍ صحيحٍ: عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: سمِعتُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ابغُوني ضُعفاءَكم؛ فإنما تُرزَقُون وتُنصَرُون بضُعفائِكم».
أي: اطلبُوا محبَّتي وقُربِي ورِضايَ في ضُعفائِكم، وتفقَّدُوا أحوالَهم، واعتَنُوا بهم، واحفَظُوا حقوقَهم، واجبُرُوا قلوبَهم، وأحسِنُوا إليهم قولًا وفعلًا.
ومِن مظاهرِ رحمتِه صلى الله عليه وسلم بالضُّعفاء: رحمتُه بالكبار، والجزاءُ مِن جنسِ العمل؛ فمَن أكرَمَ ذا شَيبَةٍ مُسلمٍ، أطالَ الله في عُمرِه، وقيَّضَ له مَن يُحسِنُ له في كِبَرِه.
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكرَمَ شابٌّ شيخًا لسِنِّه، إلا قيَّضَ الله له مَن يُكرِمُه عند سِنِّه».
وإن مِن حقِّ كِبارِ السنِّ علينا: إكرامَهم وتوقيرَهم، وتزيينَ صُدور المجالِسِ بهم، ومُناداتهم بأحبِّ الأسماءِ إليهم، والبَشَاشَة في وجوهِهم، والعفوَ والصفحَ عن زلَّاتهم وهفَوَاتهم، وذِكرَ محاسِنهم وأعمالِهم؛ فهم أشدُّ ما يكونُون رغبةً في الحديثِ عن ماضِيهم وإنجازاتِهم.
و جاء أبو بكرٍ بأبِيهِ أبِي قُحافَةَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوم فتحِ مكَّة، يحمِلُه حتى وضعَه بين يدَي رسولِ الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبِي بكرٍ: «لو أقرَرتَ الشَّيخَ في بيتِه لأتَينَاه»، ثم دعَاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للإسلامِ، فأسلَمَ.
إن رِعايةَ كِبار السنِّ ، والقِيامَ على مصالِحِهم وشُؤونِهم مِن أعظم القُرَب، وأجَلِّ الوسائل لتفرِيجِ الكُرَب، وتيسيرِ كل أمرٍ عسِيرٍ، وخاصَّةً إذا كان كبِيرُ السنِّ أبًا أو أُمًّا.
كما في “الصحيحين”: في قصَّة النَّفَر الثلاثة الذين آواهم المبِيتُ إلى غارٍ، فدخَلُوا فيه فانحَدَرَت عليهم صخرة، فسدَّت عليهم الغارَ، فتوسَّلَ كلُّ واحدٍ مِنهم بصالِحِ أعمالِه، فكانت وسِيلةُ أحدِهم: قِيامَه بهذا الحقِّ العظيم، حقِّ رِعايةِ أبوَيه الشيخَين الكبيرَين، فكان سببًا في نَيلِ مطلَبِه، وتفريجِ كُربَتِه.
بل إن السعيَ على الشَّيخَين الأبوَين الكبيرَين ميدانٌ مِن ميادِينِ الجِهادِ في سبيلِ الله.
فعن كعبِ بن عُجْرة –ضي الله عنه قال: مرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجُلٌ، فرأَى أصحابُ النبيِّ – مِن جلَدِه ونشاطِه ما أعجَبَهم، فقالُوا: يا رسولَ الله! لو كان هذا في سبيلِ الله! – أي: لو كان هذا الجلَدُ والنشاطُ في سبيلِ الله لكان أحسَنَ، فقال رسولُ الله –لى الله عليه وسلم: «إن كان خرَجَ يسعَى على ولَدِه صِغارًا، فهو في سبيلِ الله، وإن كان خرَجَ يسعَى على أبوَين شيخَين كبيرَين، فهو في سبيلِ الله، وإن كان يسعَى على نفسِه يُعِفُّها، فهو سبيلِ الله، وإن كان خرَجَ رِياءً وتفاخُرًا، فهو في سبيلِ الشيطانِ».