معلوم شرعا أن الوحي انقطع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم لا يممن لأحد ان يعلم شيء من الغيب إلا عن طريق وحي من الله وبهذا انقطعت حيلة كل مدع وسقطت دعاوى المشعوذين والمنجمين.
إلا أنه ومع هذا الانقطاع لا يمكن إغفال ما جاءت به السنة النبوية الصحيحة في شأن علم الغيب؛ فالغيب الحقيقي لا يعلمه إلا الله تعالى، لكنه يطلع بعض عباده على شيء من الغيب إما عن طريق الملك، كما أنها أثبتت في الوقت نفسه أن يمكن أن يحدث هذا مع انقطاع الوحي وذلك عن طريق الرؤيا الصادقة.
طرق معرفة الغيب:
وطرق معرفة الغيب معلومة شرعا ومحددة فهي إما عن طريق الوحي من الله للأحد رسله عن طريق الوحي قال تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)، وقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُولٍ)، وإما يعرف الغيب عن طريق الإلهام والتحديث، وإما بكلامه المباشر له، كما كان يكلم نبيه موسى عليه السلام قال تعالى : وكلم الله موسى تكليما.."، وقد يطلع الله رسوله على الغيب بكلامه المباشر له، كما حصل لجماعة من الأنبياء، ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)، ومن صور الغيب التي أخبر الله بها بعض رسوله عن طريق الملك: علم ما سيكون من أشراط الساعة، وصفة الحشر والحساب، والصراط، وعلم كثير من أخبار الجنة والنار، وغيرها من الأمور الغيبية.
معرفة الغيب عن طريق الرؤيا الصالحة:
وهذه الطريقة ما زلت موجودة حتى الآن وهي جزء من الوحي فهذا من الغيب الذي يكشفه الله لبعض عباده، ولهذا كانت الرؤيا الصالحة جزءا من النبوة فقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، ومعنى كون الرؤيا الصالحة جزءا من أجزاء النبوة: "أن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام في اللغة، والمعنى أن الرؤيا إنباء صادق من الله، لا كذب فيه ، كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب".
وتكثر الرؤى الصادقة، فتكون من المبشرات، وصدقها دليل على صدق صاحبها، كما روى أحمد وابن ماجه عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) قَالَ: وَقَالَ: (الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرُّؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالرُّؤْيَا مِنَ الشَّيْءِ يُحَدِّثُ بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلَا يُحَدِّثْهُ أَحَدًا، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ) وصححه الألباني وشعيب الأرنؤوط وقال: على شرط الشيخين.
والرؤيا الصالحة من المبشرات لكن لا يجوز لأحد ان يدعي أنه رأى شيئا وهو لم يره فهذا افتراء كما يقع تحت التحذير النبوي الشديد، ففي الحديث: "إنَّ مِن أعْظَمِ الفِرَى أنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إلى غيرِ أبِيهِ، أوْ يُرِيَ عَيْنَهُ ما لَمْ تَرَ، أوْ يقولُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لَمْ يَقُلْ".
ومن الغيب الذي يعلمه الله عباده عن طريق الرؤيا الصادقة: أن يرى الإنسان ما سيقع له أو لغيره في المستقبل، فيقع كما يرى، فقد يرى أن فلانا سيموت، أو سيتزوج من فلانة، أو سيولد له، أو غير ذلك.
فمن رأى في منامه شيئا من الغيب المستقبل، ثم وقع كما رآه، فقد منّ الله عليه بشيء من الغيب الذي لا يعمله إلا هو سبحانه وأخبر أنه يُطلع بعض عباده عليه.
معرفة الغيب بالإلهام:
وقد يطلع الله عبده على شيء من الغيب بالتحديث والإلهام، كما روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، ,في رواية للبخاري تعليقا " لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ؛ فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَر، قال الخطابي رحمه الله: "فإن كان في أُمتي منهم فإنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المُحدِّث الملهم يُلقى الشيءُ في رُوعه, فكأنه قد حُدِّث به؛ يظن فيصيب، ويخطر الشيء بباله فيكون كذلك. وهو منزلة جليلة من منازل الأولياء، ومرتبة عظيمة من مراتب الأصفياء" انتهى من "أعلام الحديث".
ومن صور معرفة الغيب بالإلهام:
وهناك صور كثيرة تثبت وقوع معرفة أشياء عن طريق الإلهام ومن ذلك ما ألهمه الله لأم موسى عليه السلام : أن تلقيه في اليم ، وأنه سينجو ويكون من المرسلين، وقد سمى الله هذا الإلهام وحيا، فقال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)،قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء، ويكون يقظة ومناما، وقد يكون بصوت هاتف، يكون الصوت في نفس الإنسان، ليس خارجا عن نفسه، يقظة ومنامًا".