للإيمان شعب وروافد تترجمه وتحوله إلى أخلاق وسلوكيات تشكل شخصية الفرد المسلم والمجتمع المسلم حتى يصبح مجتمعًا ربانيًا متماسكًا وقويًا.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمانُ بضعٌ وسبعون - أو بضعٌ وستون - شُعبةً، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان))؛ رواه الشيخان، واللفظ لمسلم.
وقد أنزل الله إلى نبيه الذِّكْرَ ليبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وقد فعل، فبيَّن لهم، وعلَّمهم كل ما يحتاجون إليه مما فيه سعادتهم ومجدهم وارتفاع درجاتهم في الدنيا والآخرة، ولم يَدَعْ شأنًا من شؤون العقائد، والعبادات والمعاملات، والأخلاق، والبر، والتقى، في الحل والترحال، والمطْعَم والمشْرب، والملبس والمنكح، والنوم واليقظة، والاجتماع والانفراد، حتى دخول الخلاء والخروج منه - إلا بيَّنَه بيانًا شافيًا، فكان من بيانه وهديه هذا المنهاجُ المنير، وتلك التربيةُ القوية المُثْلى الصالحة لكل زمان ومكان، ولكل جيل وقبيل، تلك التي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها، لا يأتون بمِثْلِها، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، بحسب ما يذكر الشيخ طه محمد الساكت في "الألوكة".نعم، إنه لم يتلقَّ عِلمًا من بشر، ولم يجلس - حياتَه - بين يدَيْ مربٍّ ولا معلم، ولكن علَّمَه العليم الخبير، الذي وسع كل شيء علمًا، وجلس بين يدي الرُّوح الأمين بأمر رب العالمين، حتى أتمَّ هذا المنهاج الذي أعجز الأولين والآخرين أن يأتوا بمثله، أو أن يجدوا سعادتهم - حتى الدنيوية منها - في غيره!.
ومن منهاج هذه الطريقة المثلى أن يُحدِّث أصحابَه بمثل هذا الحديث الجامع، ثم يُفصِّله بعض التفصيل بمثل حديث جبريل في سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم عن الساعة، فيجيبه - صلوات الله وسلامه عليه - بأمهات هذه الشُّعَب البضع والسبعين، ثم يقول لهم: ((هذا جبريل - عليه السلام - أتاكم يُعلِّمكم دينكم)).
وحديث جبريل من الشهرة بالمكان الذي لا يجهله أحد، وقد جمع وظائفَ العبادات الظاهرة والباطنة: من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفُّظ في الأعمال، حتى سمي - بحق -: أُمَّ السُّنَّة، كما سُمِّيت الفاتحة بأم الكتاب.
ثمَّ يُفصِّل حديث جبريل ويبسطه، في هديه وتعليمه وإرشاده، وشرحه لهذه الشعب في مختلف المقامات والمناسبات.
وقد جدَّ كثير من العلماء وتكلَّفوا حصر هذه الشعب وتحديدها، ولخصها صاحب الفتح في تسعٍ وستين خَصلةً طباقًا لإحدى روايتَيِ الحديث، ثم قال: ويمكن عدُّها تسعًا وسبعين خصلةً باعتبار إفراد ما ضُمَّ بعضه إلى بعض... أيريد بهذا مطابقة الخصال للرواية الثانية؟ وكلتا الروايتين واردة في الصحيح.
ولا تخرج هذه الشُّعَب - كما قال صاحب الفتح - عنَ أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن.
فأعمال القلب: المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربعٍ وعشرين خصلة، أعلاها إيمانٌ بالله، وتوحيده، وتنزيهه، وأنه ليس كمِثْله شيء، وعن التوحيد يصدر كل خير، وأعمال اللسان سبع: منها: الدعاء، والذكر، والاستغفار، واجتناب اللغو.
وأعمال البدن ثمان وثلاثون: منها: التطهير حسًّا وحكمًا، ومنها: إطعام الطعام، وإكرام الضيف، ومنها: تربية الأولاد، وصِلة الرحم، ومنها: ردُّ السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق.
وأيًّا ما كان الأمر، فقد اكتفى النبي بذكر أفضلها وأعلاها، وأيسرها وأدناها، ثم بذكر شعبة من أمهاتها، تبعث عليها، وتيسِّر الطريق لها، وهذا الإجمال من عجائب التربية النبوية، فإنه - صلوات الله وسلامه عليه - لو فصَّل الشُّعب وعدَّها، وهو قادر على عدها، لشقَّ على أمته، ولسدَّ عليهم طريق الاجتهاد فيها، ولو وقفوا عند الذي عدَّه وفصَّله، مع أن كثيرًا منها يُراد منه نوعه ومثيله، لا عينه وذاته، ويتجلَّى ذلك في نوافل الخير، وأعمال البر، وهي كثيرةٌ لا تحصى، كما يتبيَّن في آفات من الشر لم تكن معروفة في عهده - صلى الله عليه وسلم - فتفصيل هذه الشعب - فضلاً عما فيه من الإضجار والإملال - يوقع في حيرة لا فكاك منها، ثم في اختلاف لا رحمة فيه، ولا ثمرة منه.
ويواصل الشيخ طه محمد الساكت فيقول: بدأ - صلى الله عليه وسلم - بمفتاح هذه الشُّعَب الذي لا يُقْبَل شيء منها إلا به، وهو كلمة التوحيد، وليس المراد مجرد النُّطق بها، وإلا كان المنافقون وكثير من الكافرين من أهل الإيمان، إنما المراد النطق المنبعث عن الإيمان بالله وربوبيته، والطمأنينة التي لا تشوبها شائبةُ رِيبة في وحدانيته، الإيمان الذي خالطت بشاشَتُه القلوبَ، وملأت حلاوتُه النفوسَ، فطرِبَت الألسنة بالشهادة الخالصة، وتحرَّكت الجوارح بالأعمال الصالحة.
ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لسفيان بن عبدالله الثقفي - رضي الله عنه - حينما قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).
لم يقل له: آمن بالله؛ لأن الإيمان بالله - وإن كان أساسه التصديق الذي لا شك فيه - يتفاوت بحسَبِ مراتب اليقين والطمأنينة، ومحال أن تكون مرتبة عوام المؤمنين، كمرتبة النبيين والصدِّيقين، ولا شكَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد هنا الإيمان الكامل، الذي يفيض على اللسان فينطق بكلمته صادقًا موقنًا، ثم يَفيض على الجوارح فتعمل الصالحات راضيةً مطمئنةً، وهذا شأن المؤمنين الصادقين، الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا.
اقرأ أيضا:
وسائل للمحافظة على الصلاة.. تعرف عليهاوقَفَّى - صلوات الله وسلامه عليه - بذكر إماطة الأذى عن الطريق؛ ليبيِّن أن إزالة الضرر عن المارة كبيرًا كان أو صغيرًا، ولو غُصنَ شوك، من شعب الإيمان التي لا ينبغي الاستهانة بها؛ فقد يكون فيها رضا الله - عز وجل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره، فشكر الله له فغفر له)) ؛ ثم ليُبيِّن أن هذه الشُّعب على مراتبَ مختلفة، ودرجاتٍ متفاوتة، لكن الذي يُقدِّرها، ويحصى ثوابَها هو اللهُ - عز وجل.
وختم الحديث - صلوات الله عليه - بشعبةٍ من أمهات الشعب وأجَلِّها، وهي الحياء.
وإنما اختاره - صلى الله عليه وسلم - ختامًا؛ لأنه يحضُّ على الشُّعَب جميعها، ويتَّجه بصاحبه وجهة الخير والاستقامة، ثم هو حِلْية الأخلاق وزينتها، وماء الحيوية الذي يترقرق فيها، بل هو خُلُق هذه الحنفية السمْحة، كما روى مالك عن زيد بن طلحة بن ركانة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل دين خُلقًا، وخلق الإسلام الحياء)).
فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يشير بهذا الخِتام العجيب إلى أن الحياء مهيمن على هذه الشعب ومسيطر عليها، فلن يُقْبَل منها، أو لن يكون واقعًا موقع الكمال والرضا إلا ما اتَّسم بسيما الحياء، فمن هنا يخرج المنافقون والمراؤون والكذابون الذين يتظاهرون بعمل الصالحات، وهم عنها مبعدون.
اقرأ أيضا:
كيف تصلح قلبك وتكون مجاب الدعاء.. هذه أهم الوسائلاقرأ أيضا:
حتى لا تضطر للاستدانة من الغير.. عليك بهذه الوصايا النبوية