كان من دأب السلف الصالح الاستعداد للعشر الأوائل من ذي الحجة التي فتحها الله تعالى لهم، ليعظِموها وليرفعوا درجتها، كانوا في مثل هذه الأيام يجتهدون اجتهادًا حتى لا يكاد يقدر عليه ، يعني: يجتهدون اجتهادًا عظيمًا لا يستطيع أحدٌ أن يلحق بهم بهذا الاجتهاد في تلك الأيام.
وكانوا يعدون عمل اليوم فيه بأعمال أيامٍ كثيرة كما ذُكِر عن بعضهم، يعني: هذه الأيام بآلاف الأيام من الأعمال الصالحة؛ لأنها كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم توازي أن يخرج المجاهد في سبيل الله عشرة أيام وتدخل أنت أيها المسكين إلى مصلَّاك فتصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر أجر المجاهد كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: كأجر القائم الراكع القانت الساجد حتى يرجع، القانت القائم الراكع الساجد الخاشع كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره.
يقول الشيخ محمد الدبيسي: إذن قد فتحت هذه الأيام لهذا المعنى، عَظَّمها السلف أعظم تعظيم -كما أشرنا- حتى لا يكادون يقدر عليهم لا يكاد للمرء يقدر على اجتهادهم يعني: أنهم كانوا يواصلون ليلهم نهارهم، كان سعيد بن جبير راوي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما- يعني راوي حديث «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» - كان يجتهد اجتهادًا ما يُقدر عليه، وكان يعجبه ألا تُطفأ السُرُجُ بالليل سواءً في المساجد أو في البيوت بالليل هذه الليالي يعني: كان يعجبه أن يقوم الناس هذه الليالي من أوَّلِهَا إلى آخرها.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: فأكثروا فيهنَّ من التسبيح والتهليل والتحميد، أن يكثروا فيها من ذلك، وكان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- يخرجان في هذه في هذه الأيام -في أيام العشر- إلى السوق يُكبران لا يخرجهما إلا التكبير يعني: مما ورد في فضل هذه الأيام مما نسيه المؤمنون كذلك أنهم كانوا يخرجون فيها يكبرون الله تبارك وتعالى، يُذكرون الغافلين بما فيها من فضل ويرفعون فيها ذكر الله تعالى ليعُمَّ العمل الصالح جميع المؤمنين، ولترتفع الغفلة عنهم - هذه الغفلة قد أصابتنا -كما ترون- فلا تعظيم لهذه الأيام، ولا اجلال لها، ولا رفعًا لشأنها ولا شيئًا من ذلك، يُحِسُّه المؤمنون بقلوبهم فضلًا عن القيام له بأعمالهم فضلًا كذلك عن الإهتمام لها وتفريغ الوقت والجهد لتحصيل فضلها وثوابها وكأنها كبقية أيام الدنيا.
ويتابع الشيخ محمد الدبيسي قائلًا: فإذا علم المؤمنون –كما أشرنا- هذه المعاني وهو أنَّ هذه الأيام هي أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان كانوا أشد اجتهادًا لها، رأينا إخواننا في العشر الأواخر يحاولون أن يعتكفوا وأن يصلوا وأن يقوموا وأن يتحروا ليلة القدر، وأن يقدموا صدقاتهم، وأن يخرجوا زكاة أموالهم وغير ذلك من بقية الأعمال الصالحة، جاءت هذه العشر وهي أفضل منها إذا بهم نائمون، وإذا بهم غافلون، وإذا بهم متكاسلون لا يُحسون بعظمتها ولا بخطرها، ولا بإرتفاع شأنها ولا علوِّ منزلتها ولا كثرة الثواب والخير الجزيل فيها، فمتى يحسون إذن بهذا؟
ينبغي أن يتفكر الناس في موقفهم وكأنهم أمِنُوا في رمضان أن قد غفر لهم! من الذي قد أمن في رمضان أن الله غفر له وأعتقه من النار؟! فإذا بالله تعالى به يقطع عنك العذر مرةً أخرى ويفتح لك أيامًا هي أفضل فيراك على هذا التكاسل، وعلى هذا التقصير، وعلى تلك الغفلة التي نحن فيها.
علم المؤمنون كيف وَصَلهمُ الله تعالى بأيام هي أعظم من تلك الأيام، وكيف هيأهم ليحققوا عفوه بعد ذلك ومغفرته والعتق من النار -سبحانه وتعالى-، وليحققوا بذلك ما يرجون من أن يُعَيدوا، وأن يُسَّروا بعيدهم، وأن سرورهم وفرحهم لا يكون إلا بالله تعالى وبما ينزل عليهم من فضل، وبما يمنحهم من عفو، وبما يجود عليهم بمغفرته -سبحانه وتعالى- فتهيؤا لذلك وفهموا عن الله تعالى مقصوده في تلك الأيام ليستدركوا ما فاتهم، وليقتربوا بذلك من ربهم -سبحانه وتعالى- وليوحدوا ربهم، وليتعلقوا به أكثر من ذي قبل ليكونوا أحبَّ إلى الله وأقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- فإذا بهم قد تكاسلوا وتراجعوا وغفلوا.
وهذا الأمر إنَّما يجب أن يكون في مَحِلِّ حُزْنِ المؤمنين إذا لم يتحققوا بما يكون سبب فرحهم وسرورهم، تراهم بما يُسَّروا، وبما يفرحوا على العكس ينبغي أن يحزنوا لغفلتهم وبعدهم، وتقصيرهم، وتفريطهم، فما كان سلفهم على هذا الحال أبدًا من الانشغال بالدنيا، والغفلة عن الآخرة، وعدم الاستعداد للقاء الله تعالى، وفيما هم فيه من طول الأمل والبعد عن الربّ -سبحانه وتعالى- وفيما هم فيه من عدم الاستقامة على أمر الله تعالى، وثبات السير بالأقدام والقلوب إلى الله تعالى، إنَّما هم ساعةً متعبدين، وساعةً مقصرين مفرطين، وساعةً في الذكر، وساعةً في الغفلة وهكذا لم يثبتوا على السير إلى الله، ولم يستقيموا في طريقه -سبحانه وتعالى- ولم يستعدوا له، وغفلوا عن يوم رحيلهم إليه، وملاقتهم له، ووقوفهم بين يديه.
ومع ذلك ما تزال رحمة الله تعالى تحفهم، وما زال في أيام البركة وأيام البر أيامٌ يمكن أن يستدركوا فيها، أن يقوموها كلها، وأن يصوموها كلها، وأن يُعمروها كلها بالذكر كما ذُكر في التسبيح والتهليل والتحميد، وكذلك ليكبروه فيها، وأن يستبدلوا الغفلة بالذكر، وأن يستبدلوا البعد بالقرب، وأن يستبدلوا ما هم فيه بالطاعة والمحبة لله تعالى، ذلك كله ينتظره الرب -سبحانه وتعالى- من عباده المؤمنين المتقين حتى تتنزل عليهم رحمته ويرتفع عنهم البلاء، وأن تحيط بهم من عفوه ومغفرته والعتق من النار.
ويضيف الشيخ محمد الدبيسي: لذلك شرع لهم -سبحانه وتعالى- يوم عرفات ليكون خاتمة تلك الأيام حتى يصبحوا مُعَيدين، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « يكفر السنة الماضية والباقية »، ويوم عرفة أفضلُ أيام الدنيا إن قلنا ذلك على رأي كثير من أهل العلم أفضل أيام الدنيا، يباهي الربّ -سبحانه وتعالى- أهل الموقف كما ذكرنا وهو لغيرهم يعني: من لم يحضر الموقف، من لم يحضر عرفات وهو يوم تكفير الذنوب والسيئات، وهو يوم عظيم يوم إكمال الدين، يعني: اليوم الذي قال فيه المولى لعباده المؤمنين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3]، فشرع لهم -سبحانه وتعالى- في هذا اليوم من الأعمال ما يستكملون به بقية أعمالهم وينتظرون به رحمة الله تعالى وغفرانه، وعفوه وأن يُعتقوا من النار.
اقرأ أيضا:
الأمن من مكر الله له عقوبات دنيوية وأخروية هذه أشهرهااقرأ أيضا:
الأمن والصحة والعافية.."لتسئلن يومئذ عن النعيم"