قد يستغرق أحدنا في حزن طويل لعدم رزقه بالذكور، ظنا منه أن الخير كل الخير فقط في إنجاب الذكور دون البنات، خاصة وأن هذا المنطق يستفحل في القرى والريف بشكل عام، غير مكترث بما أنزله الله سبحانه وتعالى من حكمة في كتابه الكريم حول رزق البنين والبنات، ظنا منه أن السند والقوة في إنجاب الذكور فقط، حيث يقول تعالى: " {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى 49-50]
وربما يرزق الرجل بالولد بعد زمن طويل، فيعمد إلى تدليله وإفساده بدلا من تربيته تربية سليمة، فبدلا من أن يكون سندا لوالديه يكون خنجرا مسموما في ظهريهما.
لذلك اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى في رزقه لنا بالبنات والبنين أسبابا لا نعرفها، وقد تمتلئ بالخير وتدفع عنا الشر، إلا أن الإنسان خلق عجولا، لا يعترف بالخير إلا فيما يراه من خلال شهواته ونزواته وسلطانه الذي يحلم به.
وهذه الآية فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، حتى إن تدبيره تعالى، من عمومه، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب التي يباشرها العباد، فإن النكاح من الأسباب لولادة الأولاد، فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء. فمن الخلق من يهب له إناثا، ومنهم من يهب له ذكورا، ومنهم من يزوجه، أي: يجمع له ذكورا وإناثا، ومنهم من يجعله عقيما لا يولد له.
بنت أحن من تسع ذكور
وقد ورد في الأثر أن رجلا من البادية تزوج من ابنة عمه وأنجبت له تسعة أولاد ذكور ولكن في الحمل العاشر أنجبت له أنثى، وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑُﺸّﺮ ﺑﺎﻟﺒﻨﺖ ﺣﺰﻥ حزنا شديدا وشعر بالإهانة، ﻭﻗﺎﻝ صارخا : ﻳﺎ ﻟﻴﻠﻲ ﺍﻷﺳﻮد .. يا ليلي الأسود .. حتى إنه قاطع زوجته و أصبح ينظر إليها نظرة تشاؤم وجحود .. وكأنها هي السبب أو هي التي خلقتها .
ﻣﺮﺕ ﺍﻷﻳﺎﻡ والسنون ﻭﻛﺒﺮ هذا ﺍﻷﺏ وضعفت قدرته وبين يوم وليلة فقد بصره ﻭﺃﺻﻴﺐ ﺑﺎﻟﻌﻤﻰ ﻭﺗﺰﻭﺝ ﺍﻷﺑﻨﺎﺀ واﻧﺸﻐﻠﻮﺍ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﻢ ﻭﻧﺴﻮﺍ ﺃباهم ﺍﻟﻀﺮﻳﺮ.
كما أن اﺑﻨﺘﻪ تزوجت أيضا ، ولكنها لما سمعت ما حدث لأبيها سارعت للذهاب إليه ولما دخلت عليه بدأت تغسل له جسده وتنظف له خيمته وقامت بطهي الطعام له، فأحس براحة لم يشعر بها من قبل.
ولما اقتربت منه ﻟﺘﻌﻄﻴﻪ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ، أمسكها من يدها و ﺴﺄﻟﻬﺎ : ﻣﻦ ﺃنت يابنت الكرام ؟؟.
ﻓﻘﺎﻟﺖ والدموع تنهمر من عينها : ﺃﻧﺎ ﻟﻴﻠﻚ ﺍﻷﺳﻮﺩ ﻳﺎ ﺃبي !!.
فعرف أنها ابنته وانفجر باكيا ورد ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﺎﺩﻣﺎً ﻭﻣﺘﺄﺳﻔﺎً : سامحيني يابنيتي ﻟﻴﺖ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﺳﻮﺩ
وأنشد يقول :
ﻟﻴﺖ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﺳﻮﺩ .. ﺩﺍﻡ ﺍﻟﻬﻨﺎ ﺑﺴﻮﺩ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ
ﻟﻮ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﺑﻌﻤﺮﻱ ﻳﻌﻮﺩ .. لأﺣﺒﻬﺎ ﺃﻭﻝ وتالي
ﻣﺎﻏﻴﺮﻫﺎ ﻳﺒﺮﻧﻲ ﻭﻳﻌﻮﺩ .. ﻳﻨﺸﺪ ﻋﻦ ﺳﻮﺍﺗﻲ ﻭﺣﺎﻟﻲ
تسعة ﺭﺟﺎﻝٍ كِلهم جحود .. تباعدوا عن سؤالي
ﻣﺎﻏﻴﺮ ﺭﻳﺢ ﺍﻟﻤﺴﻚ ﻭﺍﻟﻌﻮﺩ .. إبنتي ﺑﻜﻞ ﻳﻮﻡٍ ﻗﺒﺎﻟﻲ
وبعدما كان وأد البنات سائدا في الجاهلية، جاء الإسلام وحرم ذلك، بل إنه كرّم المرأة ورفع شأنها، وفي الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) قدوة حسنة، ومن أجمل الأمثلة على علاقة الأب بابنته هي علاقته (صلى الله عليه وسلم) بابنته فاطمة، كاعتراف بأهمية هذه العلاقة من الناحية الدينية.
وكانت فاطمة هي ريحانة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأقرب الناس إلى عقله وقلبه، كما أخبرتنا أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنه، حيث قالت: "ما رأيت أحداً أفضل من فاطمة غير أبيها" . وقال عليه الصلاة والسلام: "فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها" . وقالت عائشة عنها أيضاً: "ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وسلم" .
وكما كانت نعم الابنة البارة بوالديها المتفانية في الدفاع عن أبيها ورفع أذى المشركين عنه، كانت نعم الزوجة المخلصة لزوجها الذي توفيه كل حقوقه وتعيش معه الحياة بحلوها ومرها .
كانت فاطمة الابنة الصغرى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، من زوجته خديجة رضي الله عنها، وأقرب الأبناء إلى قلبه وعقله ووجدانه، كما شهدت السيدة عائشة رضي الله عنها .
ضربت فاطمة، رضي الله عنها، المثل في الصبر والبر والتقوى، وتحملت المسؤولية منذ طفولتها، تزوجت وعمرها 18 عاماً وعمر زوجها 23 عاماً، وشهدت وفاة أمها وشقيقاتها، وأبيها صلى الله عليه وسلم، وكانت أول من لحق به من أهله بعد 6 أشهر .
وعندما أنزل الله تبارك وتعالى قوله سبحانه: "فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين وقال: "اللهم هؤلاء أهلي" .
وقد عاشت فاطمة، رضي الله عنها، عذاباً نفسياً قاسياً وهي ترى رسول الله يتعرض للأذى والاضطهاد من المشركين، وصحبت أبويها إلى شعب أبي طالب، حيث عاشت هناك بين أسوار الحصار المنهك ثلاث سنوات، ثم عادت إلى مكة بعد انهيار الحصار لتشهد موت أمها السيدة خديجة، ثم هجرة أبيها إلى يثرب، وبعده بثلاثة أيام هاجر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان قد تمهل في مكة، ليؤدي الودائع التي كانت عند النبي لأصحابها، وبقيت فاطمة وأختها أم كلثوم، حتى جاء رسول من أبيها فصحبهما إلى يثرب، ولم تمر رحلتهما بسلام، فقد طاردهما اللئام من المشركين، حتى رمى بهما بعيرهما إلى الأرض، وفاطمة يومئذ ضعيفة نحيلة الجسم، قد أنهكتها الأحداث الجسام، فسارت بقية الطريق متعبة .
عاشت مع والدها ووالدتها أياماً عسيرة تحت الحصار الذي فرضته قريش على اتباع الدين الحق، ورأت المشركين يلقون بالأذى على رأس أبيها، وهو قائم يصلي في الكعبة عندما كانت طفلة صغيرة فجرت إليه، ورفعت ما ألقوه وأعادت إلى المكان المقدس نظافته .
وفي مرات كثيرة ألقوا التراب على رأس أبيها وكانت في كل مرة ترفعه عنه وتغسل رأسه الشريف، وتشفق على حاله وتبكي، ويعز على الوالد الكريم أن يرى طفلته على هذه الحال، فيمسح دموعها ويطمئن قلبها ويقول لها: "لا تبكي يا ابنتي فإن الله يحميني من أذاهم" .
اظهار أخبار متعلقة
شبيهة أبيها
وكانت فاطمة الزهراء أكثر بنات النبي صلى الله عليه وسلم شبهاً به، في خلقه وخلقه، وفي حركاته وسكناته .
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : "ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة، إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وإذا دخل عليها قامت إليه فقبلته وأجلسته في مجلسها" .
ورد اسم السيدة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، في كثير من أحاديث أبيها عليه الصلاة والسلام: "يا فاطمة بنت محمد، اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً" . وفي الحديث نفسه بين لآل بيته، أن صلة القربى بينه وبينهم لا تنفعهم ولا تشفع لهم لكن صيامهم وقيامهم وجهادهم وعملهم الطيب هو الذي ينفعهم .