تعتبر الخلوة من الأشياء الكاشفة لقوة إيمان الإنسان، ومدى تربيته، وقوته، خشيته من الله، فقد تكون الخلوة دليلا على حسن إيمان المرء، أو نفاقه، فلا شبيه للخلوة، سوى الصيام، لأنها علاقة بين العبد وربه، فهو وحده الذي يراه، ويعلم سريرته، لذلك من أصلح حاله وسريرته مع الله أصلح الله له كامل شئونه، فليس أفضل من أن يكون باطن المؤمن أجمل وأفضل من ظاهره، وخلواته أصدق مع الله تعالى من علانيته.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي» وما أشد حاجتنا إلى هذا النموذج : نموذج المسلم ، التقي ، الغني - والمقصود غنى النفس في المقام الأول - الخفي ، الذي يخشى الله في السر والعلن.
فالذنوب التي تكون في الخلوات مثل الدخول على المواقع الإباحية أو السرقة أو الزنا، من أعظم المهلكات ، ومحرقةٌ للحسنات ، جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :"لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً، " قال ثوبان : يا رسول الله صِفهم لنا ،جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم ، قال :" أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها !! ".
فهل يتصور الإنسان نفسه وهو يضيع حسناته ولو كانت مثل الجبل يوم القيامة، لمجرد أنه ينتهك حرماته مع الله، أترضى لنفسك أن تكون واحداً من هؤلاء المحرومين الذين كان حظهم من أعمالهم التعب والمشقة ، والآخرون في فضائل الله يتقلبون ، ومن عظيم ما أعده ينهلون (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ،وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى "أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم ما هى أسباب الثبات".
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقةالخلوة اختبار شديد
تظهر نتيجة هذه الاختبار في الدنيا والآخرة؛ قال عطاء بن أبي رباح في قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]: "ذلك الصوم والصلاة وغسل الجنابة، وهو السرائر، ولو شاء أن يقول: قد صُمْتُ، وليس بصائم، وقد صلَّيتُ، ولم يصلّ، وقد اغتسلت، ولم يغتسل". فيا ويل غير الصادقين من يومٍ تُخْتبَر فيه سرائر العباد، فينكشف منها ما كان في الدُّنْيا خافيًا عن عيون الأشهاد، فأسِروا الخير، وأصلحوا خلواتكم، فهي منكشفةٌ غدًا، وأول ما تظهر؛ ستبدو على الوجوه، فتبيض وجوه، وتسودُّ وجوه.
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه: «أوصيك بتقوى الله تعالى في سِرِّ أمرِك وعلانيته» والتقوى في السر أصعب لكنها أعظم أجرًا؛ لأن الدافع إليها: خشية الله وحده، وأما تقوى العلانية فقد يدفع إليها كذلك خوف الفضيحة بين الناس.
قال ابن الأعرابي: "أخسر الخاسرين من أبدى لِلنَّاسِ صَالِح أعماله، وبارز بالقبيح من هُوَ أقرب إِلَيْهِ من حبل الوريد". وهي عقوبة إلهية على عدم صدق العبد، وإيثاره رضا المخلوقين على رضا رب العالمين.
و أخطر ما في ذنوب الخلوات أن تكرار السقوط فيها يبث اليأس في قلوب العصاة، فيتركون المحاولة، وينقطعون عن التوبة، وهو ما يؤدي لموت القلب، وأي مُصيبة أعظم من موت القلب! وعلامته الأساسية: عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات، وترك الندم على ما فعلته من المعاصي والزلات. وهذا دليلٌ على غضب الرب، فإن الَّذي مات قلبه لا يخشع، ولا المواعظ فيه تنفع، فإذا تُلِيت عليه آيات ربه أصرَّ مستكبرا كأن لم يسمع.
قال ابن عباس عن المذنب في الخلوات: "وخوفك من الريح إذا حرَّكت سِترَ بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عمِلته".
ينظر أحدهم إلى الأمام وإلى الوراء، وذات اليمين وذات الشمال، حتى إذا ما اطمأن أن لا أحد يراه بارز ربه بالعصيان!
ولعل من عجيب الأقدار أن يتكرر معه نفس المشهد بحذافيره؛ لكن على شفير النار! في صحيح البخاري: «لَيَقِفَنَّ أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا تَرْجُمان يُترجِم له، ثم ليقولن له: ألم أوتِك مالا؟ فَلَيقولَن: بلى، ثم لَيَقولنَّ ألم أُرسِل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يَمِينه فلا يرى إلاَّ النَّار، وينظر عن شِماله فلا يرى إلاَّ النَّار. ونظره ناحية اليمين وناحية الشمال كان في الدنيا خوفًا من أن يراه الناس، لكنه في الآخرة طلبًا للغوث أو رغبةً في الهرب من العذاب».