إن سور القرآن الكريم كلها تدعو للحكمة والأخلاق وتثبيت قواعد الدين غير ان سورة الجرات تميزت في التذكير بآداب وسلوكيات يحتاجها الجميع وبالتمسك بها ينصح حال الأمة في علاقتها بغيرها وينصلح حال الإنسان بأخيه الإنسان..
التثبت قبل نقل الأخبار:
وفي هذه السطور نتوقف عند بعض آي السورة الكريمة محاولين استخراج ما يدور فيها من آداب وما ترشد إليه من نصائح، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" [الحجرات: 6] وهذه قيمة أخرى من قيم السورة الكريمة تدعونا إلى
التبين والتثبّت من كل خبرٍ نسمعه، فلا نُرَوِّج لشائعة ولا ننشرها عبر وسائل النشر المختلفة مقروءة أو مسموعة أو مرئيّة؛ لأنّ الذي يروّج أو ينشر شيئًا لم يتثبّت منه قد دخل دائرة الكذب فهو إمّا يقع في نشر كذِب أو يتسبّب في أذًى لغيره، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» [أخرجه مسلم في صحيحه]. قَالَ النَّوَوِيّ: فَإِنَّهُ يَسْمَع فِي الْعَادَة الصِّدْق وَالْكَذِب فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ , وَالْكَذِب الإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ وَلا يُشْتَرَط فِيهِ التَّعَمُّد.
وقد رُوِيَ في الحديث: ((بِئسَ مَطِيَّةُ الرَّجل: زَعَمُوا)) [ سنن أبي داود]. قال العظيم آبادي: (بِئْسَ مَطِيَّة الرَّجُل): الْمَطِيَّة بِمَعْنَى الْمَرْكُوب (زَعَمُوا): الزَّعْم قَرِيب مِنْ الظَّنّ أَيْ أَسْوَأ عَادَة لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذ لَفْظ زَعَمُوا مَرْكَبًا إِلَى مَقَاصِده فَيُخْبِر عَنْ أَمْر تَقْلِيدًا مِنْ غَيْر تَثَبُّت فَيُخْطِئ وَيُجَرَّب عَلَيْهِ الْكَذِب قَالَهُ الْمَنَاوِيُّ.
خطر الشائعات:
ومن نَظرَ في سيرة النبي وسنّته يرى أنّ
الشائعات التي انتشـرت كادت أن تودي بحياة الأُمّة وعِرْضِها وبحياة أصحاب رسول الله؛ ففي أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة أُشِيِعَ أن المشركين دخلوا في الإسلام فعادَ أُناسٌ ممن هاجروا إلى الحبشة وكادوا أنت يُفتَنوا في دينهم، وانظر معي إلى
إشاعة مقتل الرسول يوم أُحُد، وكيف أنها كادت أن تُعَطِّل الصحابة عن الجهاد والغزو، وإشاعة اتهام السيدة عائشة (البريئة الطاهرة) بالزّنا، وكيف أقلقت شائعة رُوِّجَت حياة الأُمّة حينها. فكُنْ أخي المسلم كما قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: ((المؤمن وَقَّافٌ حتى يتبيّن))، فتِلْك القيمة الفريدة متى تحققت عصم الله الإنسان من الكذب والفسق، وعصم المجتمع من الوقوع في المشكلات العامّة والخاصة. وحريٌّ بأهل الإيمان ألا ينشـروا غيرهم أو يُنبئوهم بخبرٍ لم يتم الاستيثاق منه.
ومن رّحمةِ الله تعالى أن جعل الرسول صمامَ أمَان في مجتمعنا؛ فلولا رحمة الله بإرسال ذلكم النور الذي نهتدي بهديه لضللنا وضاقت بنا السُّبُل، قال تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ" [الحجرات: 7] فلولاه لتهنا في دروب الحياة.. فلنحمد الله على تعالى ونشكر فضله على عظيم نعمته ومِنّتِه. ولنكن على قدر الانتماء للرسول الحبيب اتباعًا لهديه وسيرًا على طريقته وتلّمسًا لمنهجه وسيرته.
إزالة أسباب الشقاق:
وما ترشد إليه السورة الكريمة السعي لإزالة أسباب الشقاق بين المتنازعين و
الإصلاح بينهما إن وجد خلاف يقول المولى الوليّ سبحانه: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" [الحجرات: 9] كما يقول أيضًا: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الحجرات: 10]، إنّ في تلك الأوامر الإلهية الوارِدة ما يُغني المجتمع عن التعارك والتنازع، وفيها ما يُرْشِد إلى منهجية التعامل مع النزاعات والمتنازعين، فقد أرشدت الآيات الكريمة إلى
الإصلاح بين المتنازعين، والدعوة إلى وحدة الصف للمشتركات الإنسانية الجامعة، كأُخوّة الإنسانية، وأُخوّة الوطن، وأُخوّة الدين.. وقد ختم الله الآيات بالتقوى ونُشْدان الرحمة بقوله: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)..
وبهذا، فإنَّ السَّاعِي في الإِصْلاح بين الناس إنما يسير على درب الأنبياء والمصلحين، كما أنه بسعيه يصنع خيرًا لنفسه ولمجتمعه، وقد عدّ الله تعالى هذا السلوك القويم بابًا من أبواب الخير والنجوى، قال عزّ وجلّ: "لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 114] فصَانِعُ المعروف بالإصْلاح بين المتخَاصِمَيْن يؤتيه الله تعالى أجرًا عظيمًا.
ولا شكَّ أنَّ مجتمعاتنا العامّة والخاصّة يعتريها بين الحين والآخر خصومات ونزاعات كثيرة، مما يجعل المسؤولية أعظم في رقاب أهْل الدين وأهل الإيمان بالسعي الحثيث إلى نزع فتيل المعارك الناشئة والدائرة؛ رغبة في تأمين المجتمع من عدوه الخارجيّ وتحسين المعيشة لقاطني المجتمعات العربية والإسلامية. وعين التقوى والإيمان وعين الانتماء لهذا الدين يتمثّل في العمل على
الإصلاح بين المتنازعين، قال تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [الأنفال: 1] ولا شَكَّ أنَّ المفهومَ منَ الآيةِ أنّ إصلاح ذات البين جزءٌ من طاعةِ الله ورسولهِ كما أنَّه دليلٌ على الإيمانِ والإسلام.
صور الإصلاح في المجتمع:
وللإصلاح صور كثيرة: منها الإصلاح في نطاق الأسرة والعلاقات الزوجية،
الإصلاح بين الأصدقاء والجيران، الإصلاح بين الإخوة عند الوصايا والإرث.. وهكذا..
فالإصلاح إذا لفظ عام يشمل علاقة الفرد بغيره أيا كان هذا لغير قريب أو بعيد صديق أو عدو وكل هذا من شأنه استقرار مجتمعاتنا وقبل ذلك استقرار علاقتنا مع ربنا سبحانه، وعلاقتنا بالأفراد أيضا.