معاناة البشر تتركز في أغلبها داخل دائرتين، وهما احتياجاتنا غير المشبعة، وإساءتنا غير المشفية،
فخلف كل "سلوك" يمكنك أن ترى "نمط الاحتياج" أو "نوع الإساءة" التي تشتعل في مركزه.
فالقرآن الكريم يصف الطبيعة الإنسانية بالعلقة ﴿خُلِق الإنسان من علق﴾، والعلق هو رمز الاحتياج، بل هو الاحتياج في صورته المجردة، فالجنين في صورة العلقة لأمه، والطفل لوالديه، والمراهق لرفقته، والراشد لبيئته وهكذا، نحن بشر إذاً نحن نحتاج.
جزء من المشكلة هو الوقع النفسي لكلمة احتياج، فنحن نتربى على أن الاحتياج ضعف، والضعف لا يليق بنا، على الرغم من أن الضعف هو الصورة الأساس التي ننتقل منها إلى الاستقلال ﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة﴾، وإدراك الاحتياج هو الصورة الأخرى للشعور بالنقص، والذي سمّاه "يونغ" بمركّب النقص، وهنا يمكننا أن نستعين بأئمة علم النفس ليوضحوا لنا هذا الأمر.
اقرأ أيضا:
عزيزي العنيد أنت في خطر!يبدأ
مُركَب النقص في الظهور في السنوات الأولى من العمر (2-3 سنوات) حين يبدأ الطفل في محاولات الاستقلال، ويكتشف أن هناك الكثير مما يستطيعه البالغون ويعجز هو عنه، هنا تبدأ جذور مُركب النقص في الظهور، والذي يبدأ الطفل بمعالجته بحسب البيئة التي ينشأ فيها.
ففي ا
لبيئة الصحية التي لا تجد في الاحتياج والضعف عيبًا، وإنما تدعم وتساند وتحتوي، يميل الطفل إلى تسديد بعض الاحتياجات التي لا تُمنح كالقوة والاستقلال بما يسميه "ادلر" بـ "التعويض"، وهو الاتحاد برموز البيئة المحيطة التي يمكنها تسديد هذا الاحتياج، والعمل على اكتساب الإشباع.
أما في
البيئة المجدبة والتي لا تدعم ولا تقبل هذا الاحتياج، فيميل الطفل إلى إحدى صورتين، إما إلى الإنكار، والفعل العكسي حيث يستبطن عدم أهليته، ويتصرف بسلوكيات ضد احتياجه لإخفائه، أو يلجأ إلى التعويض المفرط، والمثال الأقرب هنا هو الشخص الذي لم يشبع بداخله احتياج الشوفان تجده يبالغ في المظهر ويلتقط الصور كلما سنحت الفرصة.
وقد قام "اريك اريكسون" بوصف 8 احتياجات أساسية،
لا بد من إشباعها، وحدد لها المخطط الزمني لذلك، وهي الحب، الأمان، الثقة، والمبادرة، والتلقائية، والاستقلالية، والانتماء، والحميمية، والإنتاج، والرضا. بينما قام "ابراهام ماسلو" بتقسيم الاحتياجات إلى خمس درجات ثم عدلت إلى ثماني درجات بحسب أهميتها وخطورتها، وهي على الترتيب:
-
الاحتياجات الفسيولوچية واحتياج الأمان وهي مجموعة الاحتياجات الأساسية الجسدية.
-
يليها احتياج الحب والانتماء واحتياج حب الذات، وهذه مجموعة الاحتياجات الأساسية النفسية.
-
يليها الاحتياجات المعرفية والجمالية وتحقيق الذات.
- ويأتي في النهاية
احتياج التسامي والتجاوز وهذه مجموعة احتياجات استكمال النفس.
إن الاحتياجات التي نحرم منها، ونكتمها في الطفولة، تجد طريقها في شكل سلوكيات وأنماط علاقات في حياتنا بعد ذلك وهنا أتذكر كلمة فرويد: المشاعر التي نكتمها لا تموت، إنها تُدفَن حية ثم تطل علينا بعد ذلك بصورة أكثر قبحاً.
ومهما كانت درجة الاحتياج أو النقص التي تجدها الآن، فيمكنك أن تجتازها للإشباع باختيار أن تكون حقيقيًا ومُعرَضًا "أي ترٌى"، فإننا ننمو في مواجهة التحديات، وكما أن نمونا الجسدي يتأخر بطول الاحتجاز في المحاضن، فإن نمونا النفسي كذلك يتراجع أمام محاولاتنا استجداء الأمان، وتصدير صورة زائفة لا تمثلنا على الحقيقة. هنا يصبح الاحتياج وشعور النقص عجزاً وعبئاً على صاحبه.
إننا نحتاج أن نختبر الضعف والنقص، وأن نضع أنفسنا في نوعٍ من المخاطرة المحسوبة، وتخيل مبتدئً في صالة كمال الأجسام حين يرى أنه يقل كثيراً في قدراته عن زملاء الصالة، ويصبح مخيراً بين التظاهر بالغنى الزائف عن المنافسة، أو قبول النقص، والعمل على تعويضه، وإصلاحه بالتدريب والصبر، واجتياز التحديات المتدرجة الواحدة تلو الأخرى.
د. شهاب الدين الهواري
استشاري الطب النفسي
*بتصرف يسير
اقرأ أيضا:
أحب زوجي بشدة وأخبرني أن يعيش معي من أجل الأولاد.. أنا منهارة.. ما الحل؟