لله.
تبين لجنة الفتوى بسؤال وجواب ان تسلط الشيطان على المسلم وارد فالشيطان هو عدو الإنسان اللدود وقد أمرنا الله بالحذر منه وعدم الإنسياق لوسواسه..أولا
لا يمكن أن يتسلط الشيطان تسلط إجبار على المعاصي والكفر والإغواء والضلال، بحيث لا يستطيع أن يتوب الإنسان منها إلا ما يستثنى مما سنذكره بإذن الله تعالى.
قال سفيان الثوري رحمه الله في قوله: "(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل/99] قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر".
انتهى "تفسير الطبري" (14/358).
فالشيطان لا يملك سوى دعوة الناس إلى الضلال، محاولًا تزيين الباطل لهم، وهذا هو "تسلطه" أو "تسليطه" على الناس، لكنه لا يملك سلطانًا يمكنه أن يجبرهم على فعل ما يأمرهم به، أو يسوقهم إليه، من غير سلطان لهم، ولا إرادة، ولا اختيار. واللوم يقع على من استجاب له.
ثانياً:
إن الشيطان لا يتسلط على المؤمن، لكن بشرط تحقيق مقام العبودية والإيمان، ومن ذلك: التوكل على الله، الاستعاذة بالله من الشيطان.
قال الطبري: "قوله: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل/ 99]
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا، فاستعاذوا بالله منه، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة، (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية؛ لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل/ 98]، وقال في موضع آخر: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف/ 200] ، فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليعيذهم من سلطانه". انتهى من " تفسير الطبري" (14/359).
ثالثاً:
إذا ضعف أو عدم الإيمان والتوكل وعدمت الاستعاذة بالله من الشيطان قد يتسلط على الإنسان. ومن الاستعاذة النافعة المجربة، المنصوص عليها بالشرع: التحصين بالأذكار. كما هو ظاهر الآية فقد وصفهم بـ(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
منطوق الآية أن من آمن وتوكل على الله ليس للشيطان سلطان عليه، وكذلك من استعاذ كما في الآيات السابقة. ومفهومه أن من آمن ولم يتوكل ولم يستعذ أو ضعف إيمانه فقد يتسلط عليه الشيطان.
قال الشنقيطي في "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" (ص/290): "قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ).
لَا يَخْفَى مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ وُصِفَ بِهِمَا هَذَا اللَّعِينُ الْخَبِيثُ مِنَ التَّنَافِي، لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ كَثِيرُ الْوَسْوَسَةِ لِيُضِلَّ بِهَا النَّاسَ، وَالْخَنَّاسَ كَثِيرُ التَّأَخُّرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ إِضْلَالِ النَّاسِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا، فَهُوَ وَسْوَاسٌ عِنْدَ غَفْلَةِ الْعَبْدِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، خَنَّاسٌ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَبْدِ رَبَّهُ تَعَالَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ)" انتهى.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا ، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ . كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ) رواه الترمذي (2863) وصححه الألباني في صحيح الترمذي .
رابعاً:
قول الله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)، هذا حصر إضافي، فلا يفهم من الحصر أنه لا سلطان له على المؤمنين الذين أهملوا التوكل، والذين انخدعوا لبعض وسوسة الشيطان. انظر: "التحرير والتنوير" (14/279).
قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (15/157): "فالمؤمن لا يتولى الشيطان أبداً، ولكنه قد ينخدع لوسواسه، وهو مع ذلك يلعنه فيما أوقعه فيه من الكبائر، وبمقدار ذلك الانخداع يقترب من سلطانه" انتهى.
خامساً:
ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى السلطان في الآية: الحجة، "قال مجاهد: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ): «حجته»". قال: (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ): «يطيعونه". تفسير الطبري (14/357).
قال الشنقيطي في "دفع إيهام الاضطراب" (ص: 160): "ووجه كون الآيات لا تعارض بينها، أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء:
الأول: أن معنى السلطان الحجة الواضحة، وعليه فلا إشكال، إذ لا حجة مع الشيطان البتة، كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم: 22].
الثاني: أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه". انتهى. وانظر: "زاد المسير" (2/583)، "عدة الصابرين" (ص: 26).
سادساً:
قد يتسلط الشيطان على الإنسان بما لا يتجاوز ضرره الأمور الدنيوية، كتأثير الأمراض والمصائب التي تصيب الإنسان في جسده أو أهله أو ماله، وهذا النوع من البلاء قد يُبتلى به المؤمنون وغير المؤمنين على حد سواء، بل حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ومما يدل على ذلك، ما أصيب به أيوب عليه السلام، (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص/ 41]، وما ورد في الصحيحين وغيرهما من تعرض النبي ﷺ للسحر.
قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (4/239): "وتسليطه للابتلاء على جسده وماله وأهله: ممكن، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي" انتهى.
وقال القاضي عياض في "الشفا" (2/181): "السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه [أي: على النبي صلى الله عليه وسلم]، كأنواع الأمراض، مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته.
ذكر الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين (3/37): "كان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: "اللهم إنك سلطت علينا عدواً بصيرا بعيوبنا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، اللهم فآيسه منا، كما آيسته من رحمتك ...".
هل في قول: اللهم إنك سلطت علينا عدواً مخالفةٌ لقوله تعالى (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون) ؟
وأما ما ورد: أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه". انتهى.
والحاصل:
أن تسلط الشيطان نوعان:
1- تسلط الشيطان بالضرر على دين المرء، فالعبد المؤمن: محفوظ من تسلط الشيطان على قدر إيمانه وتوكله، وعمله الصالح. والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، فمن أطاع الشيطان وقع في حباله.
2- تسلط الشيطان على دنيا العبد كبدنه وأهله وماله: فهذا قد يبتلى به الأنبياء والصالحون وغيرهم.
وقد نصّ العلماء على الفرق بين الضرر الديني والدنيوي في شرح قول رَسُولِ اللهِ ﷺ: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا" رواه البخاري (6388)، ورواه مسلم (1434).
انظر: "إحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (2/180)، "فتح الباري" لابن حجر (9/229).
وبكل حال؛ فليس للشيطان سلطان تام على العبد المؤمن؛ فإنه ما يصيب منه من غفلة، دفعها العبد بإيمانه وتوبته واستغفاره، ولا يكون له سلطان بحيث يهلكه الهلاك التام؛ إلا إذا تولاه العبد، وترك حصن ربه، والاستعاذة بجنابه.