لا يخلو المسلم في دنياه من أن يتعرض لأذى من مخلوق عامدا أو سهوا وفي هذه الحالة يلزمه الحكمة في التعامل مع الأمر لاسيما إن تكرر إيذاؤه.
وبعض المسلمين يتسرع في اخذ حقه وقد يأخذه بإفراط ومبالغة أن تعرض لأذى كبير تدفعه نفسه الضعيف للانتقام والتشفي ومنع وصول الحقوق للمعتدين عليه والسعي في إيذائهم وكله هذا لا يصح له.
فالعدل مطلب إسلامي وإنساني أرساه الإسلام حتى مع الغضب قال تعالى:" وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"وقد جاء في نفسيرها: أي: ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة.
معنى التشفي والانتقام:
والانتقام كما ذكر بعضهم هو: إنزال العقوبة مصحوبًا بكراهية تصل إلى حدِّ السَّخط. لا شك قد تكون له لذة لما فيه من موافقة هوى النفس والتشفي ممن أساء، لكن لذة العفو أعظم وأكبر، قال المنصور لولده المهديِّ: (لذَّة العفو أطيب مِن لذَّة التَّشفِّي)..وبهذا يتبين أن التشفي والانتقام صفة مذمومة؛ إن العفو مطلب شرعي في مقابلة التشفي والانتقام.
نظرة القرآن لأهل العفو:
وقد مدح الله تعالى أهل العفو والغفران فقال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشُّورى: 37)، يقول الطَّبري: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} يقول تعالى ذكره: وإذا ما غضبوا على من اجترم إليهم جُرمًا، هم يغفرون لمن أجرم إليهم ذنبه، ويصفحون عنه عقوبة ذنبه).
وقد جاء في السنة النبوية المطهرة كثير من الأحاديث منها ما رواه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلَّا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد النَّاس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تُنتَهك حُرْمَة الله فينتقم لله بها).
وروى مسلم عنها رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قطُّ بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلَّا أن يجاهد في سبيل الله. وما نِيل منه شيء قطُّ، فينتقم مِن صاحبه، إلا أن يُنْتَهك شيء مِن محارم الله، فينتقم لله عزَّ وجلَّ).
قال علي القاري: (... "وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: ما غاضب أحدًا لنفسه، أي: لأجل حظِّها، "إلَّا أن تُنْتَهك حُرْمَة الله" أي: يُرْتَكَب، فينتقم أي: فيعاقب حينئذ لغرض آخر، أي بسبب تلك الحُرْمَة).
فضل العفو والغفران:
وحري بالمسلم أن يعفو ويصفح ولا يحب أن ينتقم ويتشفى ممن ظلمه ولقد كان هذا شأن السلف الصالح يقول معاوية رضي الله عنه لابنه -وقد رآه ضرب غلامًا له-: (إيَّاك -يا بُنيَّ- والتَّشفِّي ممَّن لا يمتنع منك، فو الله قد حالت القُدْرة بين أبيك وبين ذوي تِرَاته، ولهذا قيل: القُدْرة تُذْهِب الحفيظة).
ومما روي في قصص العفو ما جاء عن الأصمعي قال: (أُتِي المنصور برجل يعاقبه، فقال: يا أمير المؤمنين، الانتِقَام عدلٌ، و التَّجاوز فضلٌ، ونحن نُعِيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأَوْكَس النَّصيبين دون أن يبلغ أرفع الدَّرجتين. فعفا عنه)، وقال أعرابي: (أقبح أعمال المقتدرين الانتِقام).
يقول ابن حبَّان: (ولم يُقْرَن شيءٌ إلى شيءٍ أحسن مِن عفوٍ إلى مَقْدِرة. والحِلْم أجمل ما يكون مِن المقتدر على الانتِقَام).
وبهذا يعلم أن التسامح والعفو من الأمور المحببة لقلب المؤمن في مواجهة الانتقام والتشفي.