متعة التأمل من النعم التي لا تضاهيها نعمة أخرى، وهي النعمة التي اختص وتفرد بها القرآن الكريم، حيث لم يسبق كتاب سماوي إلى الحديث عن التأمل بمعناه الروحاني الذي يسعى إليه الباحثون عن الحقيقة، والمستمتعون بمشاهدة آيات هذا الكون الفسيح والتفكر فيه والتعلم من دروسه والاستفادة منه.
فالتّأمّل في عجائب صنع الله- عزّ وجلّ- ومنها التّأمّل في خلق الإنسان، ومنها التّأمّل في إحياء الله الأرض بعد موتها، ومنها التّأمّل في آثار الأمم السّابقة، كما أن التأمل هو القائد إلى الحقيقة وإلى الطريق المستقيم، وإلى ما يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
والمتأملون يهذا الكون هم الذين يعتزون بعقولهم، ويحترمون خصوصيتهم التي ميزهم بها الله عز وجل عن سائر المخلوقات بعقولهم وألبابهم، قال تعالى في سورة المائدة: 100: ﴿ قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ".
والتأمل يرد أصحابه إلى الصّواب ويحملهم على التّصديق بالوحدانيّة والإيمان بالبعث، والذين لا يتأملون صاروا كالبهائم الّتي لا عقل لها فلا تستنبط شيئا ممّا تراه الأعين، ولو كانوا يعقلون لما فاتهم استخلاص العبر والوصول إلى النّتائج، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ).
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبّر القرآن، وإطالة التّأمّل فيه وجمع الفكر على معاني آياته، فقد يظنّ المرء للوهلة الأولى أنّ التأمل والتفكر والتدبر مترادفة أي أنّها ذات معنى واحد، ولكن لا يلبث هذا الظنّ أن يتلاشى عند التّحقيق العلمي والتأمل العقلي بالنظر والفكر والتدبر والقلب السليم.
والتدبر والتأمل هو النّظر في عواقب الأمور وما تصير إليه الأشياء فيتجاوز الحاضر إلى المستقبل لأنّ التّدبّر يعني التّفكير في دبر الأمور، ومن ثمّ عرّفه القاشي الجرجاني بأنّه عبارة عن النّظر في عواقب الأمور، وكلّ من التّدبّر والتّفكّر من عمل القلب وحده إلّا أنّ التّفكّر تصرّف القلب بالنّظر في الدّليل والتّدبّر تصرّفه بالنّظر في العواقب.
وهناك فرق بين التأمل والتّدبّر في أنّ التّأمّل قد يحدث بالبصر وحده أو بالبصر يعقبه التّفكّر، أمّا التّفكّر والتّدبّر فبالبصيرة وحدها إذ هما من أعمال القلب (أو العقل).
اقرأ أيضا:
الإيثار.. إحساس بالآخرين وعطاء بلا حدودأفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟
قال تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر} (الغاشية: 17: 22).
ضرب الله سبحانه وتعالى المثل في التأمل بخلق الإبل، حيث تمتاز الإبل عن بقية المخلوقات بقدرتها على إطفاء ظمئها بأي نوع من الماء تجده فهي تشرب من مياه المستنقعات شديدة الملوحة والمرارة، وتشرب من مياه البحر والمحيطات.
وفي هذه الآية الكريمة يخص الله سبحانه وتعالى الإبل من بين مخلوقاته الحية، ويجعل النظر إلى كيفية خلقها أسبق من التأمل في كيفية رفع السماوات ونصب الجبال وتسطيح الأرض، ويدعو إلى أن يكون النظر والتأمل في هذه المخلوقات مدخلاً إلى الإيمان الخالص بقدرة الخالق وبديع صنعه.
والآية الكريمة "أَفَلَا يَنظُرُونَ إلى الْإِبِلِ" أفلا صيغة استفهام إنكاري، وهي أفضل صور الحث على النظر، وعلى إعمال البصر، والعقل والقلب للوصول إلى ما عليه الإبل من خلق بديع. وفيها دعوة للنظر إلى الإبل بما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ومزيد قوتها وبديع أوصافها، فقد خلقت جميلة جداً، فهي تبهرك حين تمشي وحين ترد الماء وحين تبرك.
ويدلل بعض العلماء نتيجة للأبحاث التي أجريت على الإبل أن لعابه يعتبر من أقوى المضادات الحيوية التي عرفتها البشرية في قتل المكروبات، ولهذا نجد أن الأمراض التي تصيب الإبل قليلة جداً، وتكاد تكون خارجية مثل "الجرب" و"الشاف".
وتمتاز الإبل عن بقية المخلوقات بقدرتها على إطفاء ظمئها بأي نوع من الماء تجده فهي تشرب من مياه المستنقعات شديدة الملوحة والمرارة، وتشرب من مياه البحر والمحيطات، وترجع مقدرة الإبل على تجرع محاليل الأملاح المركزة إلى استعداد خاص في الكليتين اللتين لهما قدرة عجيبة على إخراج الفائض ضمن الأملاح.
كما أن ألبان الإبل وبولها علاج للكثير من الفيروسات والبكتيريا، ويؤيد ذلك ما رواه الإمامان البخاري ومسلم بسندها عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن نفراً من قبيلة عكل قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام ثم استوحموا أرض المدينة ـ وسقمت أجسامهم ـ فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: (ألا تخرجوا مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها..؟ فقالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، ووقع خصوص التداوي بأبوال الإبل حديث أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ "عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة للذربة بطونهم").
وأثبت كثير من العلماء الباحثين، أن في أبوال الإبل من الخصائص ما يمكن عن طريقها ـ بإذن الله تعالى ـ معالجة الكثير من الأمراض المستعصية ولقد كانت الأجيال السابقة، قبل ظهور ما يعرف بـ"المضادات الحيوية" والمطهرات يغسلون الجروح والقروح بأبوال الإبل فتندمل وتشفى، وكانوا إذا أحسوا بخمول في الجسم أو آلام في المعدة نتيجة لما يسمى بالتلبكات المعوية سارعوا إلى شرب أبوال وألبان الإبل فتعود لهم الصحة، وكانت النساء يغسلن رؤوسهن بأبوال الإبل فينموا الشعر ويتكاثر ويشفى من أمراضه التي تعمل على تقصفه وإزالة ما به من قشور وآفات. وهنالك أسرار أخرى عديدة لم يتوصل العلم بعد إلى معرفة حكمتها، ولكنها تبين صوراً أخرى للإعجاز في خلق الإبل كما دل عليه البيان القرآني.