دار الافتاء المصرية ردت علي هذا التساؤل بالقول :يستحب شرعًا إلقاء خطبة أو موعظة أثناء انتظار المشيِّعين حتَّى تحضر الجِنازة للصلاة عليها، وكذلك عند القبر بعد دفنها؛ فإن النفوس تكون في هذا الوقت مهيَّأةً للتأثُّرِ بالموعظة وقبولها؛ وتكون منقطعة عن الدنيا تتفكَّر في عاقبتها، وعينها على ذلك اليوم الذي تُحمَل فيه على الرِّقاب، لتُشيَّع إلى مثواها الأخير، مع مراعاة عدم الطول حتَّى لا يملُّ المشيِّعون، ولا يجوز رَمْيُ من يفعل ذلك بالابتداع؛ بل إنَّ تضييق ما وسَّعَه الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم يُعَدُّ بابًا من أبواب الابتداع في الدين.
وقالت الدار في الفتوي المنشورة علي بوابتها الاليكترونية :الموعظة: هي التذكير بالخير، والنَّصح والإنذار بالعواقب، ونحوه مما يُرقِّق القلب؛والوعظ والتذكير ونحوه ممَّا يعمل على ترقيق القلوب، وهو من أهم المهمات، ومن آكد المطالب في الإسلام؛ يقول تعالى: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠]، ويقول تعالى آمرًا نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلّم بوعظ قومه وتذكيرهم: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾ [النساء: ٦٣]، وفي الحديث المتَّفق عليه: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا)
وونبهت الدار إلي أن الأمر بالوعظ والتذكير جاء مطلقًا؛ فيعمُّ كل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال ما لم يرد ما يُقيِّده؛ فإذا شرع الله تعالى أمرًا على جهة العموم أو الإطلاق، فإنَّه يُؤخَذ على عمومه وسَعَته، ولا يصحُّ تخصيصه ولا تقييده بوجهٍ دون وجه إلَّا بدليل، وإلَّا كان ذلك بابًا من أبواب الابتداع في الدين بتضييق ما وسَّعَه الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وافادت الدار أنه يندرج تحت هذا العموم ما جرى عليه النَّاس من الاجتماع قبل صلاة الجِنازة؛ للجلوس بين يدي أحد الوعَّاظ يعظهم ويذكرهم بالله تعالى وبالموت والدار الآخرة حتَّى يتم تجهيز الميت، فيجتمعوا للصلاة عليه، وكذلك ما يجري من الوقوف بعد دفن الميت؛ لما في ذلك من الوعظ والتذكير، والدعوة إلى الاعتبار، وترقيق القلوب، وتهيئتها للتَّضرُّع إلى الله تعالى، وجمع الهمة في الدعاء.
وتابعت قائلة :قد جاءت الأحاديث الصحيحة مُصرِّحةً بأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يعظ أصحابه بعد دفن الميت وقبله؛ من ذلك ما رواه الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه في الحديث المتَّفق عليه، قال: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ،
ومضي الرسول في حديثه للقول وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ [الليل: 5-6]. وقد بوَّب على ذلك الإمام البخاري في "صحيحه" بقوله: (باب موعظة المحدِّث عند القبر، وقعود أصحابه حوله)؛ قال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (11/ 497، ط. دار المعرفة): [وفي الحديث: جواز القعود عند القبور، والتِّحدُّث عندها بالعلم والموعظة] اهـ.
وبدوره قال الإمام القسطلاني في "شرحه على صحيح البخاري" (2/ 454، ط. المطبعة الأميرية) تعليقًا على تبويب البخاري (باب موعظة المحدث عن القبر وقعود أصحابه حوله): [وهذا مع ما ينضمُّ إليه من مشاهدة القبور، وتذكُّر أصحابها وما كانوا عليه، وما صاروا إليه من أنفع الأشياء؛ لجلاء القلوب، وينفع الميت أيضًا؛ لما فيه من نزول الرحمة عند قراءة القرآن والذكر، قال ابن المنير: لو فطن أهل مصر لترجمة البخاري هذه لقرَّت أعينهم بما يتعاطونه من جلوس الوعَّاظ في المقابر، وهو حسَنٌ إن لم يخالطه مفسدة] اهـ.
كما أخرج الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، والحاكم في "مستدركه" عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في جِنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحَد، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجلسنا حوله، وكأنَّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عودٌ ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: «اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا»، ثم قال: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ.. إلى آخر الحديث»،
واستدركت الدار للقول : وهو حديثٌ طويلٌ أطنب فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الوعظ والتذكير لأصحابه؛ قال الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 161، ط. دار الفكر): [ويُستحبُّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعة قدر ما يُنحر جزور ويُقسّم لحمُها، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ، وحكايات أهل الخير، وأخبار الصالحين] اهـ.
اقرأ أيضا:
انشغالي بالعمل يجعلني غير حريص بالسنن والمستحبات..هل علي إثم؟وبحسب فتوي الدار فممَّا هو معلومٌ أنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتحيَّنُ الأوقات المناسبة التي تكون النفوس فيها مهيَّأة لقبول الموعظة والتَّأثُّر بها؛ كما يدلُّ على ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتَّفق عليه: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"؛ قال الإمام ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 228، ط. دار المعرفة) حكايةً عن الإمام الخطَّابيِّ: [المراد: أنَّه كان يراعي الأوقات في تعليمهم ووعظهم، ولا يفعله كل يوم خشية الملل، والتخوُّل: التَّعهُّد، وقيل: إنَّ بعضهم رواه بالحاء المهملة، وفسرَّه: بأنَّ المراد يتفقَّد أحوالهم التي يحصل لهم فيها النشاط للموعظة فيعظهم فيها، ولا يكثر عليهم؛ لئلَّا يملُّوا] اهـ.
وواضافت لا شك أنَّ وقت انتظار النّاس إحضار الجِنازة للصلاة عليها، وكذلك عقب تشييعها ودفنها وقتين مناسبين تكون النفوس فيهما مهيَّأةً للتأثُّرِ بالموعظة وقبولها؛ فهي حينئذٍ تكون منقطعة عن الدنيا تتفكَّر في عاقبتها، وعينها على ذلك اليوم الذي تحمل فيه على الرِّقاب، لتُشيَّع إلى مثواها الأخير ليهال عليها التراب ثم يغادرها الأهل والأحباب؛ فإنَّ الناظر لا يجد وقتًا النّاس فيه أكثر تهيُّئًا لقبول الموعظة من ذلك الوقت.
وخلصت الدار في نهاية الفتوي للقول : فإنَّ إلقاء موعظة أثناء انتظار المشيِّعين حتَّى تحضر الجِنازة للصلاة عليها، وكذلك عند القبر بعد دفنها أمرٌ مستحبٌّ شرعًا، مع مراعاة عدم الطول حتَّى لا يملُّ المشيِّعون، ولا يجوز رَمْيُ مَن يفعل ذلك بالابتداع؛ بل إنَّ تضييق ما وسَّعَه الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم يُعَدُّ بابًا من أبواب الابتداع في الدين.