لم يكن الفقر والغنى إحساسًا ماديًا فقط، وإنما هو إحساس داخلي ومعنوي أيضًا، فدائمًا ما يشعر بعض الناس بالفقر والحاجة إلى المال، على الرغم من النعم التي أنعم الله بها عليه، الأمر الذي يجعل الفقر بين عينيه، مهما كان معه من مال وصحة، فهناك بعض الناس لا تسمع منهم إلا الشكوى، واليأس، حتى أنك من فرط يأسهم قد تسود الدنيا في عينيك، لذلك ينصح العلماء بألا نخالط أمثال هؤلاء حتى لا نتأثر بهم .
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الآفة، وهي آفة الشكوى، فعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ، فَقَالَ: "أَلَكَ مَالٌ؟" قُلت: نَعَمْ، قَالَ: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟" قُلت: قَدْ آتَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ.
قَالَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ".
فهذا الحال التي وجد عليها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل، نجدها في أناس كثيرون يمتلكون المال والصحة ولا يظهر أثر نعمة الله عليهم، إما للبخل أو إدعاء الفقر.
اظهار أخبار متعلقة
و كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أصحابه كيف يأخذون من الدنيا حظهم من غير إسراف ولا تقتير، ويدعوهم إلى التمتع بالطيبات بالقدر الذي لا يخرج بهم عن حد الاعتدال، ويوصيهم بأن يأخذوا حذرهم من التكلف في الزهد، والإهمال في مطالب الجسد الضرورية، ويرسم لهم الطريقة المثلى في استغلال ما آتاهم الله من فضله في الحدود التي يحبها الله ويحبها الناس، فالله جميل يحب الجمال، والناس أيضاً يحبون الرجل الذي يظهر بمظهر جميل يريح العين، ويناسب ما جرى عليه العرف الذي يقره الشرع ويرتضيه.
أثر نعمة الله عليك
فأمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك بن عوف والد أبي الأحوص أن يكون مظهراً لنعمة الله عليه معبراً عنها باتخاذ ما يناسب حاله من الغنى؛ لأن الإسلام دين الوسطية والاعتدال.
وقد عرف منه النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فقال له: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ".
أي ما دام الله قد أعطاك مالاً فأنفق منه على نفسك فحسن ملبسك؛ تحدثاً بنعمة الله عليك؛ فإن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده إذا أظهرها عبده من غير بطر ولا خيلاء، وفي غير إسراف ولا تبذير.
وينسحب هذا أيضاً على الطعام والشراب والفراش وما إلى ذلك من طيبات الحياة، ولنا ما جاء في كتاب الله تعالى من الحث على التمتع بالطيبات، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } (سورة المائدة: 87-88).
وقال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } (سورة الأعراف: 26)
وقوله جل شأنه: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (سورة الأعراف: 31-32).
حظ المسلم من الدنيا
فمن المستحب أن يأخذ المسلم حظه من دنياه بغير سرف ولا تقتير؛ إيماناً منه بأن الفضيلة وسط بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط، وأن الإسلام دين الوسطية، وهي القصد والاعتدال في جميع الأمور.
وقد جاء في أوصاف عباد الرحمن من سورة الفرقان: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } (آية: 67).
وهذا الحديث حجة على من يدعي أن الزهد في الدنيا هو التقشف والخشونة والحرمان من المتع الحلال، فيلبسون أخس الثياب وأخشنها، ويظهرون أمام الناس بمظهر مقزز مخالف لما جرى به العرف والتقاليد، وعمل به الشرع.
فالشكر من شيم أهل الوفاء لا ينقص من صاحبه شيئًا، وإنما يرفع قدره بين الناس وأمام الله عز وجل، بل هو من موجبات زيادة النعمة، يقول تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ».
فمع كل شكر زيادة في العطاء والمنح الربانية، لأنه سبحانه وتعالى هو من منحنا كل شيء ونعمه علينا لا تحصى، لذا وجب الشكر والحمد عليها ليلاً نهارًا، يقول تعالى: «وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (إبراهيم: 34).
وإنكار الفضل والجحود بالنعم، أسرع طريق لزوال هذه النعم، كما قال تعالى: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»، تمامًا كالقرية التي كانت آمنة فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع، وذكر قصتهم في القرآن الكريم حتى يكونوا عبرة حتى تقوم القيامة، قال تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون».