في زمن غلبت فيه مشاغل الحياة صخب النفوس، وقلّ فيه الخلو بالله، يظل قيام الليل شعلة مضيئة في درب السالكين إلى الله، ونورًا يضيء ظلمة الحياة، وسببًا في نيل القرب والمغفرة والسكينة.
عبادة عظيمة شرفها القرآن قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17-18].
وقوله سبحانه:{وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلْأَرْضِ هَوْنًا... وَٱلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـٰمًا} [الفرقان: 63-64].
إنها عبادة تجعل من ليل العبد روضة من رياض الذكر والدعاء، وتفتح له أبواب الرضا والسكينة.
قيام الليل في السنة النبوية
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك قيام الليل، بل كان حريصًا عليه حتى تورّمت قدماه. فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:
"قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟" [متفق عليه].
كما قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" [رواه مسلم].
وقيام الليل لا يقتصر على طول الركعات، بل يكفي أن يقوم العبد بما تيسر له من ركعات خاشعة، يُناجي فيها ربّه، ويبثه شكواه وهمّه، ويطلب العفو والمغفرة.
أسرار روحية ونفسية
لا يخفى على أهل السير إلى الله أن لقيام الليل آثارًا عظيمة على النفس والقلب، منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟" [رواه البخاري ومسلم].
قيام الليل في حياة الصحابة والسلف
كان الصحابة والسلف الصالح يرون في قيام الليل سلوتهم، وفي السجود دواء قلوبهم. قيل للحسن البصري: "ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟" فقال:
"لأنهم خَلَوا بالرحمن فألبسهم من نوره".
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهله ويقول: "الصلاةَ الصلاةَ" ويتلو:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
دعوة لإحياء الليل من جديد
قيام الليل لا يشترط له أن يقوم المرء الليل كله، بل تكفي ركعتان يخلص فيهما لله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"عليكم بقيام الليل، فإنه دَأبُ الصالحين قبلكم، وقُربة إلى ربكم، ومَكفَرة للسيئات، ومَنهَاة عن الإثم، ومَطردة للداء عن الجسد" [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وفي زماننا، ومع كثرة المشاغل، يبقى قيام الليل فرصة لتجديد الإيمان، ومراجعة الذات، والتقرب إلى الله.
وأخيرا لنفتح قلوبنا لقيام الليل، ونكسر حجب الغفلة، ونخلو بالله في ظلمة السكون، لعلّنا نُكتب عنده من الذاكرين، من القانتين، من أهل "الليل" الذين يحبهم الله.
هل ترغب أن أضيف أقوال العلماء، أو شهادات من أشخاص يروون أثر قيام الليل في حياتهم ليصبح التقرير أكثر عُمقًا؟