لم يكن غار حراء المبارك هو مجرد غار كان يختلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ليعبد ربه، معلنا رفضه للجاهلية وعقائدها الباطلة، ولكن هذا الغار المبارك هو أول شاهد على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فحين نزل الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة، رجع إلى خديجةَ رضي الله عنها فأخبَرَها الخبر وقال: ((لقد خشيتُ على نفسي!))،فقالت له رضي الله عنها: "كلَّا! والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
وكانت المرة الأولى لجبريل عليه السلام في زيارته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئة رجل جاء إليه في المنام، ودار بينهما الحوار المشهور؛ الذي قال فيه الملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ. فقال: ما أقرأ". إلى آخر الحوار المشهور.
وهبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه كما يقول: "وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي"، وفي الغالب كان يُخالطه شعور كبير من الرهبة، وقد يكون من الخوف؛ لأن الملك كان يضمُّه ضمَّة شديدة، لعلَّها أرهقته حتى عندما استيقظ في الحقيقة، وتَذَكَّر الرؤيا التي رآها، خاصة وأنه يعرف أن رؤاه كانت تتحقَّق كفلق الصبح.
اظهار أخبار متعلقة
ذهب النبي للغار، وتحققت الرؤية، وجاءه جبريل، فقال له جبريل:(اقرأْ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أنَا بِقَارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بلغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلنِي فقالَ: اقرأْ، قلتُ: ما أنَا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانيةَ حتى بلَغَ مني الجهدَ، ثم أرسلَني فقالَ: اقرأْ، قلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَالِثَةَ حتى بلَغَ مني الجَهْدَ، ثمَّ أرسلَنِي فقالَ: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ)سورة العلق.
وقد قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحتي بلغ مني الجهد، أي أنه كان لا يستطيع التنفس، بينما قصد جبريل عليه السلام، بقوله اقرأ أي اقرأ بحول الله وقوته، لا بحولك وقوتك، فكما خلقك سيعلمك، وبعد ذلك ترك سيدنا جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الشعور بالرهبة والخوف دفعه إلى الخروج من الغار، ومحاولة العودة السريعة إلى بيته ليَسْكُن إلى زوجته خديجة رضي الله عنها؛ لكن الأزمة اشتدَّت عندما خرج من معتكفه من الغار حين سمع صلى الله عليه وسلم صوتًا من السماء في هذا المكان الموحش يقول له: "يا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ". فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ".
وسارع النبي بالذهاب لبيته صلى الله عليه وسلم، وقص الحدث على خديجة، ولما قال لها صلى الله عليه وسلم: ((لقد خشيتُ على نفسي!))؛ أي: مما حدث له في الغار وخارجه من أمر الوحي ورؤية الملَك (جبريل) عليه السلام، ردَّتْ عليه بلسان الواثقة: "كلَّا! والله ما يخزيك الله أبدًا"؛ كلا لن يحزَن قلبُك، ما دام يحمل الخيرَ للناس، وما رأيتَه قد يكون فيه خيرٌ لك؛ فلن يخزيَك الله؛ أي: لن يفضحك ولن يهينك... ثمَّ عدَّدتْ له خصالًا فيه، لن يخزيَ الله مَن اتصف بها، وهاته الخصال هي:
1- تصل الرحم: أي تُحسن إلى أقاربك بالمال، أو بالخدمة، أو بالزيارة، أو السلام، وغير ذلك.
2- تصدُق الحديث: وقد كان معروفًا في الجاهلية بالصادق الأمين، وقال له قومه: "ما جرَّبنا عليك كذبًا قط".
3- تُؤَدِّي الأمانة: والأمانة كلُّ حقٍّ يلزم أداؤه وحفظه؛ كالودائع... وأداؤها إيصالها حيث شاء صاحبها أو إرجاعها إليه، وعندما لاحَقَ المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى المدينة مهاجرًا وترك عليَّ بن أبي طالب ليرُدَّ الأمانات إلى أهلها، ولم يَسْتبحْها بكفرهم ولا بظلمهم.
4- تَحمِل الكَلَّ: أي تتحمَّل مؤونة الكَلِّ، وهو الضعيف واليتيم وذو العيال، فتُنفِق عليه، وتقوم على حاجته.
5- تَكسِب المعدوم: أي تكسب المالَ المعدوم، فتحصل منه بعملك وعرق جبينك ما يَعجِز عنه غيرُك، وتبذُل من هذا المال للمحتاج أو المعدوم (المعدم).
6- تقري الضيف: والقِرى هو ما يُقدَّم للضيف من طعام وشراب، وما يحتاجه حال وجوده عند مضيفه؛ أي: أنت تكرم الضيف.
7- تعين على نوائب الحق: والنوائب جمع نائبة، وهي الحادثة أو المصيبة، وإنما قالت: نوائب الحق؛ لأن النائبةَ قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، وقال ابن حجر في فتح الباري: "هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدَّم ولما لم يتقدَّم".
وكان غار حراء هو أول شاهد على نبوة النبي وعلى خلقه، فقد كان هذا المكان الذي حب فيه الرسول الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين، من العبادة للأصنام، والسجود للأوثان، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة سن الأربعين. وكان يخرج إلى غار حراء شهراً في كل سنة.
اظهار أخبار متعلقة
أين يقع غار حراء؟
يقع غار حراء في أحد الجبال على بعد مسافة ثلاثة أميال من مكة المكرمة، في طريق منى.
واسم الجبل الذي يوجد فيه غار حراء هو جبل النور أو جبل الإسلام، وسمي بهذا لان أول سورة من القرآن الكريم نزلت على رسول الله فيه.
وكان يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد في الغار في شهر رمضان من كل عام.
والعبادة التي كان يمارسها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة هي التفكر والتأمل في خلق السماوات والأرض.
لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم غار حراء؟
اختار النبي غار حراء دوناً عن غيره رغم وجود الكثير من الجبال والمغارات حول مكّة؛ لعدة اسباب منها أن الغار يقع في مكان مُتخفٍّ عن أعين الناس، مما يساعده على تحقيق هدفه من الابتعاد عن الناس، فيفوز بالهدوء والطمأنينة، والصفاء الذهني الذي يدعو إلى التفكّر العميق. كما انه يُطِلّ الغار على بيت الله الحرام؛ فيرى الكعبة المشرّفة باستمرار، الأمر الذي يدعو إلى المزيد من العبادة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم عقب انتهاء الخلوة في غار حراء، يعود الى مكة المكرمة فيطوف بالكعبة المشرفة سبعة أشواط قبل أن يدخل بيته.