حينما نتحدث عن صفات الناس نمتدح الكثير منهم بصفاتهم الحسنة، فنتكلم عن شجاعتهم وكرمهم ومروءتهم، ولكن في نهاية الطريق لا نجد رجلاً كاملاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كمل النبي في كل شيء وكان حسنًا في كل شيء، وذلك بما شهد له به ربه في القرآن الكريم وقال تعالى عنه في سورة القلم: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (4)، فلا يوجد رجلا كاملا في هذا الكون إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
حتى أن النبي كان مثاليا في تعاملاته مع كل البشر، وكان قدوة يقتدى به في كل شيئ، فلم تجد منه سوى الكمال والحسن والخلق القرآنية، فقد كان خلقه القرآن كما وصفته عائشة رضي الله عنه.
حتى الزوج الذي امتدحه النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته مع زوجته وكان معروفا بإكرامه لزوجته واسمه أبو زرع، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه لعائشة: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلق"، فقد نقص أبو زرع في مثاليته مع أم زرع بأن طلقها والطلاق غدر بالمرأة التي تحب زوجها ويحبها زوجها، رغم كرمه لها وحبه وجزيل فضله معها، ليؤكد أنه لم يوجد رجل كامل في أي خلق إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كمل وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم وكملت به الأخلاق.
بداية القصة مع أبي زرع وأم زرع
وقصة أبي زرع وأم زرع، كانت قصة معروفة عند العرب قديما، وضربت المثل في فصاحة النساء، ووصفهن الدقيق لأزواجهن، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبته القصة، وكشفت مظاهر الخيرية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أزواجه -رضي الله عنهن- كما كشفت سماعُه صلى الله عليه وسلم الطُّرَفَ والأخبارَ الاجتماعية، وأخذ الحسن منها، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة كنت لك كأبي زرع مع أم زرع غير أني لا أطلق.
وأصل القصة هي ما جاء عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: "جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا"، وفي رواية: "اجْتَمَعَ نِسْوَةٌ ذَوَامٌّ, وَنِسْوَةٌ مَوَادِحٌ لأَزْوَاجِهِنَّ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الْمَوَادِحُ سِتًّا, وَالذَّوَامُّ خَمْسًا".
فقَالَتِ الأُولَى: زَوْجِي عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ, شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلاًّ لَكِ", و المعنى بأن هذه الزوجة وصفت زوجها بأصعب ما يكون على الرجال، فقالت إنه زوج عاجز لا يستطيع معاشرة النساء ولا يرضيهن على فراشهن، اجْتَمَعَتْ فيه كُلُّ العُيوب, فإذا غَضِبَ شُجَّ رأسَها أو يَكْسِرَ عُضْوًا مِنْ أعضائِها.
وقَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٌّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ, لاَ سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلاَ سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ"، أي أنه تصف زوجها بشدة البخل والشح وقلة الخير، فلا يُوصَلُ إلى خَيرِه إلاَّ بِمَوتِه؛ لِشِدَّةِ بُخْلِه.
و قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ, إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ"، أي أنها تصف زوجها بأنه مُجَرَّدُ مَنْظَرٍ لا خَيْرَ فيه؛ فإنْ ذَكَرَتْ ما فيه من صفات طَلَّقَها وإنْ سَكَتَتْ تَرَكَها مُعَلَّقَة.
وقَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي إِذَا شَرِبَ اشْتَفَّ وَإِذَا رَقَدَ الْتَفَّ وَلا يُدْخِلُ الْكَفَّ فَيَعْلَمُ الْبَثَّ"، فوصفته كما نقول في تشبيهاتنا الشعبية بأنه رجل بركة على وجه السخرية فهو يَشْرَبُ ويَأْكُلُ ويَنام ولا يُكَلِّمُها ولا يَسْألُ عن حَالِها.
وقَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لاَ أَذَرَهُ إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ"؛ أي: أنها لا تَنْشُرُ أخبارَ زَوجِها؛ لأنه مَسْتُور الظَّاهِر رَدِيءُ الباطِنِ.
اقرأ أيضا:
يتعامل النبي مع المخطئين بطريقة رائعة.. تعرف على جانب مضيء من دعوته بالرفق واللبيننساء مدحن رجالهن
وقَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لاَ حَرٌّ وَلاَ قُرٌّ وَلاَ مَخَافَةَ وَلاَ سَآمَةَ", امْتَدَحَتْه بِحُسْنِ خُلُقِه وسُهولَةِ أَمْرِه وليس عِندَه أذًى ولا مَكْروه ولا تَخافُ شَرَّه.
وقَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ"، امْتَدَحَتْه بالكَرَمِ, والشَّجاعَةِ, وحُسْنِ الخُلُقِ, والتَّغَافُلِ عن مَعايِبِ البيت.
وقَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ, وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ, أَغْلِبُهُ وَالنَّاسُ يَغْلِبُ", امْتَدَحَتْه بِجَمِيلِ عِشْرَتِه لها وَلِينِ عَرِيكَتِه وصَبْرِه عليها وشَجاعَتِه.
وقَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي أَبُو مَالِكٍ, وَمَا أَبُو مَالِكٍ؟! ذُو إِبِلٍ كَثِيرَةِ الْمَسَالِكِ قَلِيلَةِ الْمَبَارَكِ إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ"، فقد امْتَدَحَتْه بالكَرَمِ, وكَثْرَةِ القِرَى, والاستعدادِ له مع الثَّروة الواسِعَة.
وقَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَاد عَظِيمُ الرَّمَاد قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ" أي امْتَدَحَتْه بطول القَامِةِ وحُسْنِ المَنْظَرِ والكَرَمِ؛ لذا تَقْصِدُه الضُّيوف.
وقَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (أُمُّ زَرْعٍ): زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ, فَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ وَمَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ, وَمُنَقٍ, فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ"، فقد امْتَدَحَتْ أبا زَرْعٍ بأنه حَلاَّها بالأقراطِ والذهب وأحْسَنَ إليها حتى سَمِنَتْ فدَخَلَ السُّرورُ والفَرَحُ قَلْبَها. وذَكَرَتْ حالَها وأهْلَها -قبلِ زَوَاجِها- بأنهم كانوا في شِقِّ جَبَلٍ ليس لهم من المَالِ إلاَّ الغَنَم ثم أصْبَحَتْ غَنِيَّةً تَشْرَبُ حتى تَرْوَى, وتَنامَ أَوَّلَ النَّهار وتقولُ ما شاءَتْ فلا يَرُدُّ عليها قَولَها؛ لِكَرامَتِها عليه.
وأضافت (أُمُّ زَرْعٍ): خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ فَلَقِيَ امْرَأَةً فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلاً سَرِيًّا أَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا وَقَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ, وَمِيرِي أَهْلَكِ.. قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ"؛ أي: بعدَ أنْ طَلَّقَها أبو زَرْعٍ تَزَوَّجَتْ أمُّ زَرْعٍ رَجُلاً آخَرَ وصَفَتْه بالسُّؤْدَدِ والشَّجاعَةِ والفَضْلِ, والجُودِ بكونه أباحَ لها أنْ تَأكُلَ ما شاءَتْ مِنْ مَالِه وتُهْدِي منه ما شاءَتْ لأهلها مُبالَغَةً في إكرامِها ومع ذلك فكانَتْ أحوالُه عندها مُحْتَقَرَةً مُقارَنَةً بِأَبِي زَرْعٍ، وسَبَبُ ذلك أنَّ أبا زَرْعٍ كان أَوَّلَ زَوْجٍ لها فَسَكَنَتْ مَحَبَّتُه في قَلْبِها.
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ، إِلَّا أَنَّ أَبَا زَرْعٍ طَلَّقَ، وَأَنَا لَا أُطَلِّقُ"( حديث صحيح رواه الطبراني في الكبير) وقال العلماءُ: هو تَطْييبٌ لِنَفْسِها وإِيضاحٌ لِحُسْنِ عِشْرَتِه إيَّاها أراد -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لِعائِشَةَ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ في الأُلفة والمُوافَقَة لا في الفُرْقَةِ والمُباعَدَة.
ويُرْوَى عن عائشةَ -رضي اللَّه عنها- أنها قالتْ: قلتُ: "يا رسولَ اللَّه! بل أنْتَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ"، وهذا هو اللاَّئِقُ؛ لِحُسْنِ أَدَبِها -رضي اللهُ عنها وأرضاها-.