لاشك أن الحديث عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن يكفيه آلاف الكتب، لكن بقدر المستطاع، يجب تقديم بعض الملخصات عن حياتهم، ليعرف ويرى هذا الجيل كم أن هؤلاء الناس عانوا ودفعوا من حرياتهم وراحاتهم وأمانهم لكي يصل إلينا الإسلام سهلا مُبسطًا.. ومن أبرز هؤلاء الصحابة الذين رفضوا العيش في رغد من العيش، واختاروا التعب والكد وتقديم كل ما هو غالي ونفيس.
الصحابي الجليل -صاحب الشرف والغنى- حذيفة بن عتبة رضي الله عنه، وهو ابن شيخ الجاهلية عتبة بن ربيعة، وأخته هي هند بنت عتبة، وهو خال معاوية بن أبي سفيان، وابنه هو محمد بن أبي حذيفة ، ذاك الثائر على عثمان بن عفان ، وزوجته هي سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وهي المستحاضة، التي تزوج بها عبد الرحمن بن عوف ، وهي التي أرضعت سالما ، وهو كبير ، لتظهر عليه، وخصا بذاك الحكم عند جمهور العلماء.
اظهار أخبار متعلقة
من الثراء للتقشف
اختار حذيفة حياة التقشف على حياة الرغد والثراء التي كان يحياها، فهو ابن أحد أغنى رجالات قريش (عتبة بن ربيعة)، إلا أنه مع ذلك كان من السابقين إلى الإسلام، حيث أسلم قبل دخول المسلمين دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر إلى الحبشة مرتين مع زوجته سهلة، وشارك في غزو بدر، وكان الأمر جل بالنسبة له، إذ أن أبيه وأخيه وعمه كانوا بين المشركين، بل وتقدموا الصفوف، ليقتلوا على يد حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهو موقف صعب جدًا، أن يرى أبو حذيفة دماء أبيه وأخيه وعمه تجري معًا في وقتٍ واحد، موقف شاق وثقيل.
ولأن أبا حذيفة كان يعرف في أبيه ذو فضل، فكان يرجو له أن يهتدي للإسلام، فلما رأى مصرعه على الكفر تألم لذلك، وقد لَحَظَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفَطِن النبيل الحكيم، وقدر ما دار في نفسه من عواطف فقال له: "يا أبا حذيفة لعلك دخلكَ من أبيك شيء؟"، فقال أبو حذيفة: "لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنتُ أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنتُ أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيتُ ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنتُ أرجو له أحزنني ذلك"، عندها ترفّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له خيراً، ودعا له بخير.
ارتقاء وسمو
يشير إسلام حذيفة مع بشائر الإسلام، قدرة على الارتفاع والسمو، فإذ أنه تجاوز الأفق الدنيء الذي تعيش فيه أسرته، واستشرف آفاقاً أخرى أجلَّ وأعظم، وأنبل وأكرم، وأجمل وأروع، هي آفاق الإسلام العظيم الذي جاء يُخرِج الناس من الظلمات إلى النور.
ولاشك أن هذه المقدرة التي امتلكها أبو حذيفة هيأت له الفرصة للإسلام المبكر على الرغم من جميع الصعاب والمعوقات، فاكتسب موقفًا كريمًا لا يَبلى على مر الدهر، هو موقف السابق المُسارع إلى الإيمان، مهما كانت نتائجه، والعجيب أيضًا أن أبا حذيفة الذي هاجر مرتين إلى الحبشة على الرغم من والده عتبة، هاجرت معه زوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو.. على الرغم من والدها، الذي كان هو الآخر من سادة قريش، وممن يعادون دعوة الإسلام ويحاربونها.