من فضل الله تعالى على هذه الأمة أنها أمة وسطًا في كل شيء فتشريعاتها وسط بين الإفراط والتفريط وكذا أخلاقها وكل أمورها؛ فمن خرج عن هذه الوسطية انحرف إلى أحد أمرين إما الإفراط وإما التفريط وكلا طرفي الأمور ذميم.
وفي القرآن: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ".
الاعتدال في العبادة:
لا يصح أن يعبد المسلم الله إلا بما شرع وما شرعه الله هو الذي جاء به كتابه وجاءت به السنة فمن خرج عن هذا فلا شك أنه منحرف عن جادة الصواب فمن يتشدد أو يفرط لا يكون معتدلا.
ولهذا عاب النبي على هؤلاء الذين بالغوا في عباداتهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ( جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم -، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها [أي: عدُّوها قليلة]، فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا [أي: دائما دون انقطاع]، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر [أي: أواصل الصيام يومًا بعد يوم]، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
مفاسد التشدد في الدين:
وحينما نتوقف مع هذا الحديث ندرك منه ونستخرج فوائد رائعة منها أن مخالفة هدي محمد صلى الله عليه وسلم والتشدُّد والتعمق والمغالاة في التعبد يؤدي إلى الإخلال بباقي الحقوق والالتزامات التي أمر الله تعالى بمراعاتها، والتي منها حقوق الزوجات والأبناء.
الخروج عن الاعتدال يوقعك في رذيلتين:
أيضا أن حال هؤلاء الذين يخرجون عن المنهج الوسطي إما التشدد كما حدث في الحديث وهؤلاء بلا شك يفرطون في جوانب أخرى فهم بذلك متشددون في جانب ومفرطون في جوانب أخرى عندهم تقابل ذلك الغلو، فضلاً عن كون التشدد والغلو في العبادات يؤدي بصاحبه في النهاية إلى السأم والملل حتى يصل به إلى الانقطاع التام والترك، بل ربما أدى به إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها، فينتقل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب.