يقول الله تعالى في سورة المؤمنون: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
يظن الإنسان في كثير من الأوقات، أن كثرة المال وعظم السلطة والتوفيق في المنصب، هو من قبيل الرضا الإلهي عليه، فينتهي تفكيره إلى أنه في الطريق الصحيح، مع ظلمه وغشمه وكثرة تطاوله على الناس وعجبه بماله، فيزيد من بطشه، ويفرح بتكبره وجبروته، غير مكترث بما جاء في القرآن الكريم، وغير متدبر في حذر منه ربنا سبحانه وتعالى في الكثير من الآيات من الاغترار بالمال والسلطة وكثرة الولد ووفرة الرزق.
فتنة الغافلين
فليس الابتلاء شرا كله، بل ربما يكون الابتلاء منحة ربانية وليس وفرة المال والنجاح في الوظيفة خيرا كله، فربما يكون مكرا مكرته بنفسك فحاق مكرك في وجهك وجعله الله حسرة وندامة عليك.
فقول الله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: هل تظنون أننا كلما أعطيناكم من مال وأمددناكم ببنين وذرية أنكم من أهل الخير وتستحقون الخير؟ هل هذا دليل على استحقاقكم عند الله يوم القيامة الجنة والنعيم؟.
فالدنيا قد يعطيها الله عز وجل من يحب ومن لا يحب، بدليل أن الله عز وجل يرزق المؤمن ويرزق الكافر، بل إنه عز وجل قد يجعل الكافر أكثر حظا وأوفر مالا وقوة من المؤمن، فعطاء الله للناس في الدنيا ليس دليلاً على أنه يعطيهم يوم القيامة أيضاً، بل قد يكون إملاء واستدراجاً لهم، ولهذا قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ)، أي: ما نعطيهم في هذه الدنيا، وقوله تعالى: (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ)، فليس معنى هذا: أننا نسارع في إعطائهم الخيرات من أجل أن نعطيهم خيرات يوم القيامة، فهذه الخيرات معجلة لهم في الدنيا ولا خير لهم في الآخرة، فهم لم يشعروا أننا نملي لهم، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
ويأتي هذا الشعور والإحساس برضا الله من خلال النظر القاصر لكثرة المال وقوة المنصب، نتيجة الغفلة، فكم من إنسان غفل عن محاسبة نفسه ومراجعة مواقفة ووجد نفسه خاسرا لكل شيئ الدنيا والأخرة، وقوله تعالى: (بَل لا يَشْعُرُونَ) دليل على ذلك، أي: فهم في غفلة، فالإنسان في غفلة وفي نوم حتى إذا مات استيقظ من هذا النوم، وقام من رقدته ومن غفلته، فالدنيا غفلة للإنسان وحلم من الأحلام، إذا مضى هذا الحلم وجاءه الموت واستيقظ يرى الواقع الأليم الذي كان عليه.
اقرأ أيضا:
الإيثار.. إحساس بالآخرين وعطاء بلا حدودفتنة المال والولد والمنصب
المال مال الله استخلف عليه الإنسان :" وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " وأنه سبحانه جعل للفقير والعائل والمحتاج نصيبا فيه، وجعل نصيب الزكاة حقا لأصحابها، ولكن حب هذا المال غالب على الناس، فيظن أحدهم أنه علامة خير عليه، ولا يعبأ بحقه ولا بفتنته.
يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 14، 15].
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله - تعالى - عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي مَالِ الرَّجُلِ فِتْنَةً، وَفِي زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ فِتْنَةً".
فلا تحسبن أن في كثرة المال وعظم المنصب، دليل على الخير، بل تذكر حقيقة نفسك، وعظيم نعمة ربك، دائماً دائماً تذكر أنك أنت الذليل، وأن نعمة الله عز وجل هي النعمة العظيمة، حتى تفرد الله سبحانه وتعالى، فتتعبد لله بمقام الذل، وتفرد الله عز وجل بمقام العزة والكبرياء، فأنت مقامك أن تذل نفسك أكثر لله، وأن تعظم الله سبحانه وتعالى أكثر بالنظر إلى نعمه، هذا رجل من السلف أراد أن يعلم إنساناً من هو؟ فسمعه يقول بإعجاب: أما تعرف من أنا؟ فقال: " نعم، أعرف من أنت، لقد كنت نطفة قذرة، ثم ستصبح جيفة مذرة، وأنت في هذا تحمل العذرة ".
وقد كشف الله لنا حقيقة المال، حتى لا نغتر به، ونحيد به عن الفروض، وكشف أنه من المفاتن التي تقود الإنسان إلى دنو الهمة وسفاسف الأمور، وجاء المثل القرآن من خلال قصة أصحاب الجنتين، قال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33].
فقد جاءت قصة الرجلين والجنتين لتضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة، والنفس المعتزة باللّه. وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس: صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري، تذهله الثروة، وتبطره النعمة، فينسى القوة الكبر التي تسيطر على أقدار الناس والحياة، ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى، فلن تخذله القوة ولا الجاه. وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه، الذاكر لربه، يرى النعمة دليلا على المنعم، موجبة لحمده وذكره، لا لجحوده وكفره.
كما ضرب الله المثل بقارون الذي حرص على جمع المال وقاده إلى دنو الهمة وجعله لا يهتم إلا بمحقرات هذه الدنيا، ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ *)[القصص.
وقد عرضت الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيحها وخزائنها لا ينقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغضه خالقه، أو يرفع ما وضعه مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً.
انظر للنبي صلى الله عليه وسلم حين شد على بطنه الحجر، وكان يقول حينما يجد رجلا يهاب جلاله صلى الله عليه وسلم: " أنا بن امراة كانت تأكل القديد في مكة".
اقرأ أيضا:
كيف تصير عبدًا ربانيًا.. وتجعل الآخرة همك.. هذه أهم الوسائل