أعلى درجات الإيمان هي التقوى، هي أن تعبد الله كأنك ترا، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أن تلتزم بالفرائض والواجبات وأن تبتعد عن النواهي والمحرمات، وليس أدل على مكانة وعظم "التقوى"، من أن الله تعالى عظم المتقين، وجعل لهم المكانة الأعظم والتقدير الأكبر عما عداهم، فقال: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".
والتقوى هي نوع من أنواع المراقبة الذاتية، نابعة من الضمير الإنساني، الذي يفرض على النفس، مجموعة من القواعد التي تسير عليها، ولا تحيد عنها بأي شكل من الأشكال، وذلك ليس في العبادات فقط، بل هي في كل شيء، فالإسلام وحدة متكاملة، في العبادات والمعاملات، والعبادة مكملة للإيمان، بل هي أصل الإيمان.
والتقوى مشتقة من الوقاية، وهي التي تحول بين الوقوع في معصية الله، وفعل ما يغضبه، بأن تتخذ وقاية تقيك من عذاب الله ومن غضبه بفعل أوامره وترك نواهيه، فتفعل ما أمرك الله به رجاء ثوابه، وتترك ما نهاك الله عنه مخافة عقابه.
والتقوى درجات: أعلاها فعل الواجبات والمستحبات وترك فضول المباحات وتجنب المحرمات والشبهات والمكروهات، والورع عما تخشى عذابه في الآخرة، وأدناها فعل الواجبات وترك المحرمات مع ترك المستحبات وفعل المكروهات والتوسع في فضول المباحات وقلة الورع.
والتقوى هي الغاية من عبادة الله، من فعل للواجبات وترك المحرمات، قال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، وقال أيضًا "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" وقال أيضًا "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، وقال أيضًا "وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
وفي الحديث عن نحر الأضحية، يقول الله تعالى: "لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ"، يعني أنه إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا، لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرازق، فهو لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها، سبحانه هو الغني عما سواه.
وليست التقوى حصرًا على العبادات، بل هي في كل أوجه المعاملات دون استثناء، فعندما تتحرى الرزق الحلال الطيب وتبتعد عن الكسب الحرام، يطب مطعمك وينبت جسدك من حلال، فهذا نوع من أنواع التقوى يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ"، تحريم قاطع للربا، من انتهى عنه والتزم أمر الله بالابتعاد عنه، كان من المتقين، الذين يخشون الله، ويراقبونه في معاملاتهم المادية، فلا يحصل على زيادة في رأس مال عن طريق ربا، ولا يبيع إلا ما أحل الله: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا".
وحين يتقي الله في أهل بيته، في زوجته وأولاده، ويعاملهم على النحو الذي يرضي الله، فيحافظ على الزوجة التي استحلها بكلمة الله ويرعاها ويحفظ حقوقها، ولا يهينها، ويربي أولاده على الطريقة التي يرضى عنها: "قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً"، فإنه يكون أيضًا من هؤلاء الذين وصفهم الله المتقين، رضوا الله فأرضاهم.
قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "استوصوا بالنساء خيرًا"، وذلك بإعطائهن حقوقهن التي شرعها الله لهن، وعدم الإساءة إليهن، والتعامل معهن بصورة تحفظ لهن آدميتهن وتشعرهن بقيمتهن في الحياة، فإنهن ليس كيانًا مهمشًا لا قيمة له، بل هي مخلوق مثله مثلك، يتساوى معك في كل الحقوق والواجبات.
ومن أعظم مظاهر التقوى في الحياة، تقوى الله في الأولاد، فإنهم أمانة استودعهم الله إياك، فلا تضيعهم ولا تهملهم، وأحسن إليهم، وارعهم، وأدبهم بـأجمل الأخلاق وأفضلها، "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، لا ينشغل عنهم تمامًا فيفسدون، ولا يقسو عليهم فيتمردون، وإذا كان الإنفاق عليهم وتوفير الأموال لهم هو من الواجب على الآباء، فإن تربيتهم وتخليقهم بأخلاق وآداب الإسلام هو أعظم من ذلك.
اقرأ أيضا:
الكسل داء يبدد الأعمار والطاقات.. انظر كيف عالجه الإسلاموالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يَقُوت"، أي: لو لم يكن له من الإثم إلا هذا لكان ذلك كافيًا لعظمه، كفى به إثمًا أن يضيّع، فأنت مسئول أمام الله عن أبنائك، لا مفر لك من القيام بتلك المهمة التي كلفها إياك، ولا مبرر للتهرب من تحمل مسئولياتك وواجباتك نحوهم، فإنهم إذا ضاعوا كنت أنت السبب، وأنت المحاسب أمام الله على ذلك.
وتقوى الله في أي مكان وزمان، فهي ليست محدودة بمكان، ولا محصورة بزمان، قال صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة، وخالق الناس بخلق حسن".
ومجاهدة النفس حتى لا تقع في المعصية، هو من تقوى الله، فإن من الناس من يفعل الأمور الطيبة أمام الناس، لكن عندما يختلي بنفسه يفعل المحرمات، فهو يبتعد عن المعصية ويتظاهر بالصلاح مراعاة للناس، وأمام أعينهم، وبمجرد أن يخلو بنفسه ويغيب عن أعين الناس سرعان ما ينتهك حرمات الله، فهذا قد جعل الله سبحانه أهون الناظرين إليه، فلم يراقب ربه، ولم يخش خالقه، كما راقب الناس وخشيهم، أما من يجاهد لترك المعاصي، ولكن قد يضعف أحيانًا من غير مداومة على مواقعة المحرمات، ولا إصرار عليها، فيرجى ألا يكون داخلاً في ذلك.
عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورًا"، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".
وتقوى الله لها أعظم الأثر في حياة الإنسان، وتعود بالخير على من كانوا من نسله، فبصلاح الجد السابع أرسل إلى اليتيمين اللذين وردت قصتهما في سورة "الكهف" نبيًا (موسى)، وعبدًا صالحًـا (الخضر) من أجل أن يبني لهما الجدار الذي تحته كنزهما، حتى يكبرا ويستخرجاه بنفسهما، "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ".
والله تعالى يقول أيضًا: "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا"، وهذا من بركة التقوى أن الله يجعل للأبناء حظ من تقوى أبيهم من بعده، وهي أعظم ميراث يمكن أن يتركه الإنسان لأولاده، لأنه سيدفع إليهم الخير ويقيهم من الشر، ببركة صلاح الأب.
ومما يقوله الشيخ الشعراوي إمام الدعاة حول هذه الآية إن "الإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان، فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك".
اقرأ أيضا:
دف قلبك بهذه الطريقة تسلم لك جوارحك