حينما يرق قلبك لحيوان ضعيف لم تره من قبل، وتضع له طعامًا في الطريق قد تبقى منك ليس ذلك إلا تنفيذًا لدقات الرحمة التي تدق في قلبك ناحية هذا الضعيف، أو حين يتبقى منك بعض حبات الأرز في المنزل فتضعها على ورقة وتثبتها على جدار شرفتك ومعها كوب الماء ليأكل ويشرب منه بعض الطيور الطائرة في السماء، رغم أنك على يقين بأن من سيأتي ليأكل منه لم تره ولو لمرة واحدة.
هل سألت نفسك ما هو الشيء الذي دفعك لكي تعطف على هذا الكائن الضعيف سواء كان طيرا أو حيوانا، وأنت لم تعرفه، ولم تحبسه في بيتك أو تقتنيه من أجل الزينة و لم يعجبك شكله، ولا تعرف حتى من هو، وكيف تحرك قلبك لإطعام شيئ في الغيب، فالطائر الذي يطير بجناحيه وتضع له الطعام، هو غيب بالنسبة لكن مع ذلك أنت ورغم أنك لم تسأل عن هذا الطائر أو الحيوان وجدت نفسكتفعل هذا دون إرادتك.
إذا تفكرت في هذا قليلا، ستجد الإجابة في أن الذي حرك دوافعك تجاه هذا الطائر الضعيف الذي لم تعرفه، هو الجزء المقسوم لك من رحمة الله في قلبك، فقد جاء في حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه.
فالرحمة التي وقعت في قلبك من الله تجاه هذا الطائر رغم أنك لم تخلقه ولم يكن بينك وبينه أي علاقة، هي التي جعلتك تضع له هذا الطعام، فما بالك بالذي خلقك؟! فأنت مخلوق لله عز وجل فهل تظن أنه يتركك بدون رزق، وهو يعلم حالك ويعرف شكوتك، وقد جعلك الله سببا في رزق هذا الطائر الغريب عنك وأنت لم تعرفه؟.
هل تظن أن الله عز وجل وقد أقسم على نفسه بأن يرزق جميع مخلوقاته، قال تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»، «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، هل تظن أنه لن يرزقك، وأن هناك من وضع الله الرحمة في قلبه من ناحيتك ليكون سببا في رزقك، كما وضع الرحمة في قلبك لتكون سببا في رزق هذا الطائر الضعيف.
فقط اعلم أن الرزق منزل إليك، لا جدال ولا شك في هذا، ولكن فقط ليس عليك شيئ إلا أن تلتمس أسبابه، كما التمست الطير أسبابه إليك حينما جاءت لحد باب شرفتك وهي تبحث عنه فوجدته عندك.
اقرأ أيضا:
سلم أمرك لله.. كل شيء يحدث في أرض الله بمقدور اللهفعَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً» .
وَمَعْنَى: تَغْدُوْ خِمَاصاً. تَذْهَبُ أَوَّلَ النَّهَارِ خَالِيَةً بُطُوْنُهَا مِنْ شِدَّةِ الجُوْعِ. وَتَرُوْحُ بِطَاناً. تَعُوْدُ آخِرَ النَّهَارِ مُمْتَلِئَةً بُطُوْنُهَا لِأَنَّهَا قَدْ شَبِعَتْ.
فليس عليك أيها المؤمن الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت إلا أن تفعل كما يفعل الطير، تذهب ساعيا في الأرض للبحث عن رزقك، وكن على يقين أنه مقسوم لك ومنتظرك بلهفة، فقط اذهب إليه والتمسه فستجده، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسبُه}".
وَهَذَا مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالتَّوَكُّلِ، وَقَدْ نَالُوا مَا نَالُوا مِنَ الأَذَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُوْدِهِ: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [سورة يُوْنُسَ:84-86].
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آلَ عِمْرَانَ:173،١٧٤).
فَالطَّيْرُ الجَائِعَةُ تَبْحَثُ عَنْ مَا يَسُدُّ رَمَقَهَا فَتَجِدُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا، فالأَخْذُ بالأسباب مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِيَدِهِ الرِّزْقُ فَهَذَا الَّذِيْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ، أَمَّا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ بِالتَوَّكُّلِ دُوْنَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ فَمَمْنُوْعٌ، وَهُوَ التَّوَاكُلُ، وَهُوَ لَا يُجْزِئُ.
مر عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ المُتَوَكِّلُوْنَ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمُ المُتَّكِلُوْنَ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالمُتَوَكِّلِيْنَ؟ رَجُلٌ أَلْقَى حَبَّةً فِي الأَرْضِ ثُمَّ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّوْنَ وَلَا يَتَزَوَّدُوْنَ، وَيَقُوْلُوْنَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُوْنَ. فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البَقَرَةِ:١٩٧]" .
فمَنْ أَرَادَ الرِّزْقَ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى الرَّزَّاقِ، وَقَدْ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِيْ ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الآيَةَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ» .