عزيزي المسلم، أوتدري أن المصحف كالكائن الحي، أو كصاحبك المقرب، لكن هذا إن كنت أيضًا تتخذه من المقربين، بينما لو ابتعدت فإنه سيشعر بذلك، وحينها سيهجرك دون تردد، وكأنها علاقة تبادلية معك (إذا هجرته هجرك)، و(إذا اقتربت منه ودنوت اقترب منك ودنى)، (وإذا اتخذته صاحبًا صاحبك)، بينما إذا نسيته نسيك، وهنا تكون المعضلة، إذ أنك حين تحاول العودة إلى هذا الصديق تراه لا يجيب فتحاول عبثاً إرضائه بمشقة شديدة.
وهنا حاول أن تتذكر أليس بعد أن تركت المصحف فترة وحينا قررت العودة كان لسانك (ثقيلا)، ألم تتعثر وتلهث وأنت تقرأ؟.. وربما تقضى أياما على هذا النحو إلى أن يلين لك المصحف، وتجري آياته على لسانك بالتدرج وتتذوق حلاوة طعم التلاوة، وتتفيأ ظلالها المبللة بندى الجمال والجلال فتشرق فيك ظلمات البعد، وتنير لك ولقلبك طريق الفهم والاستيعاب والقراءة، وشيئًا فشيئًا تعود إلى صديقك القديم.
اقرأ أيضا:
"إلي مثواه الأخيرة " خطأ شرعي فتجنبه ..لهذه الأسبابكتاب عزيز
القرآن الكريم كتاب عزيز، لا يمكن له أن يأتيك قبل أن تأتيه أنت موقنًا فيه، ومصدقًا لما جاء به، قال تعالى يؤكد ذلك: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ» (فصلت 41)، فإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلا أو تحريفا، أو تغييرًا، من إنس أو جن أو شيطان مارد، أو مهما كان.
ولذلك فإن من أعظم الآيات التي تحدثت عن جفاء الكفار وإعراضهم عن كتاب الله تعالى، حتى وصل الحال إلى شكوى عظيمة يبثها النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل بسبب هجر قومه للقرآن العظيم، قوله تعالى: « وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا » (الفرقان: 30)، فقد أعرضوا عن القرآن العظيم وهجروه، وتركوه، مع أن الواجب عليهم، الإيمان به، والانقياد لحكمه.
بعد رمضان
قد يعود المسلم إلى المصحف في رمضان، ولكن الأزمة تأتي بعد رمضان، إذ يحدث هجر غير عادي للمصحف، وربما يظل لشهور وأحيانًا حتى رمضان القادم دون أن يفتحه أحدهم، وهجر القرآن قد يأتي على شكل هجر سماعه والإيمان به، وعدم الإصغاء إليه؛ قال تعالى: « وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » (فصلت: 26)، أو هجر العمل به، وعدم الوقوف عند حلاله وحرامه.
قال تعالى: « قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ » (فصلت: 44)، فإياك أن تهجر هذا القرآن، حول أن تقرأه، واسمعه من غيرك، فهو الميسر للذِّكر، لمن صلحت نيته، قال تعالى: « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ » (القمر: 17).