بين الله سبحانه وتعالى الفرق بين الرجولة الحقيقية التي يؤسسها أصحابها على الإيمان الصادق، وبين الذكورة التي يعتمد أصحابها على ما يذكر في بطاقة الرقم القومي، فالإيمان وخلق الرجال فى حقيقته صلة بين الإنسان وربه لا يكشف عن قوته ونفاسة معدنه، إلا خضوع الإنسان لسنة الابتلاء، والثبات فى ضوائق المحن والشدائد وخوض غمار العثرات والصعاب، ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء على مقدار ما أوتوا من مواهب وملكات، وما أدوا فى حياتهم من أعمال زلزلت لهولها الجبال.
معنى الرجولة في الإسلام
والرجولة في الإسلام، بمعناها التذي ذكره ربنا سبحانه وتعالى في قوله تعالى: " مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)سورة الاحزاب.
فالرجولة قوةٌ في القول، وصدعٌ بالحق، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28].
فعن ثابت قال، قال أنس : عمي أنس بن النضر سميت به، لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه، لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يوم ] أحد ، فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس يا أبا عمرو ، أبن . واها لريح الجنة أجده دون أحد ، قال : فقاتلهم حتى قتل قال : فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ، فقالت أخته - عمتي الربيع ابنة النضر - : فما عرفت أخي إلا ببنانه. قال : فنزلت هذه الآية : ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) .
والرجولة هي قوة الإيمان، فالرجال لا يُقاسون بضخامة أجسادهم وبهاء صورهم، وقوة أجسامهم فعن علي بن أبي طالب قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود فصعد على شجرةٍ أمره أن يأتيه منها بشيء فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة فضحكوا من دقة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من دقّة ساقيه؟! إنّهما أثقل في الميزان من جبل أحد».
اقرأ أيضا:
الفرق بين الكرم والسفه.. بطون المحتاجين أولىميزان الرجال في الإسلام
وميزان الرجال في شريعة الإسلام ليس المال وليس الجاه وليس المنصب إنما الأعمال الفاضلة والأخلاق الحسنة والإيمان القوي.
وقد مرّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما تقولون في هذا؟» قالوا: هذا حريٌ إن خَطَب أن يُنْكح، وإن شَفَع أن يُشَفّع، وإن قال أن يُسْتمع له. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال:«ما تقولون في هذا؟» قالوا: هذا حريٌ إن خَطَب أن لا يُنْكح، وإن شَفَع أن لا يُشَفّع، وإن قال أن لا يُسْتمع له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذا».
الرجولة هي الأداء والإيثار
تقول ابنة الصدِّيق أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنهما، وأرضاهما:
مرَّ علينا عام الرمادة في عهد الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه، جاع فيه الناس، وفي بيتي تميراتٌ قليلة، فركنت إلى قيلولة وقتَ الهجير. وبينما أنا نائمة استفقتُ على صوت جلبةٍ عظيمة تعالت فيها أصواتُ الناس، ونظرتُ إلى السماء فلمحتها حمراء وقد زاد الهَرَجُ والمَرَج، فقلتُ لجويريةٍ عندي اذهبي وانظري لي ما يجري، واستعجليني الخبر.
عادت الجارية تخبرني بأن قافلة لعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، وقوامها سبعمائة بعير، عادت من الشام محملة بالسمن، والبر، والزيت، والزبيب، والخل، والكساء، وبضائع أخرى كثيرة.
فقلت: ولمَ هذه الجلبة؟ قالت: يتفاوض التجار على شرائها، فيدفعون في البضعة الضعفين، والثلاثة، وعبد الرحمن بن عوف لا يبيع.
فقلتُ: والله لئن صدفته لأقرِّعَنَّه على فعلته، لقد فسد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعد محمد.
وبعد قليل طُرِقَ بابي، فقالت الجارية بأن عبد الرحمن بن عوف بالباب، ويريدك.
فقلت: لقد ساقه الله إليَّ، وجاءني برجليه، فوالله لأقرِّعَنَّه.
فتحاملتُ على نفسي، وقرِبت الباب، وعليه حجاب، وقلت: نعم يابن عوف.
فقال: أتذكرين يابنة الصديق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عني حين قال:
ندخل الجنة، ويتخلف عنا عبد الرحمن بن عوف، يُحاسَبُ على ماله ثم يدخلها حبوًا، عسى الله أن يطلق ساقيه.
قلت: نعم أذكره.
قال: إن هؤلاء القوم يدفعون لي في البضعة خمسة أضعاف، وأنا لا أبيع.
فهممت أن أقاطعه لأعاتبه، وأدعوه إلى الشفقة، واللين بحال المسلمين، لكنه استرسل قائلا: أتسمعينني؟ قلت: نعم أسمعك.
قال: فقلت لهم هناك من يدفع لي أكثر لعلمي بأن الحسنة بعشرة أمثالها، فأخبرتُ أبا حفص عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يوزعها على أهل المدينة ومَن حضر في سبيل الله، وإني أشهدتُ الله وأشهدت عمر، وأشهدتُ ابن أبي طالب، وأشهدك على ذلك، فعسى أن يطلق الله ساقيَّ، ومضى.
فرجعت أجرجر أذيالي، وأنا أتمتم: أبأصحابِ رسول الله تظنين الظنون؟ فليتكِ ما كنتِ، ولا كنتِ، إنه أحد العشرة المبشرين بالجنة.
قالت: فلبستُ وخرجتُ لأشهد الحدث فوجدتُ عليًا يصفُّ الإبل، ومعه رهطٌ من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وقد أفرغوها من أحمالها، ووزعوها على أهل المدينة، وبقيت الإبل تَصفُرُ في الهواء، وعبد الرحمن يقول لعمر: مالي وهذه الإبل، اجعلها في إبل الصدقة.
تقول السيدة عائشة، رضي الله عنها:فوالله ما بات ليلتها في المدينة جوعان .