رمضان ليس شهر كبقية الشهور لكنه له خصائص معينة تجعله محط نظر المهتمين بالطاعة الحريصين على مرضاة الله رب العالمين.. وبجانب هذا كله فهو فرصة لمحاسبة النفس وتهذيبها وتدريبها على معالي الأمور.
و
محاسبة النفس منزلة ينبغي أن يحرص عليها كل مسلم حريص على تقييم أدائه وتصحيح مساره في الطريق إلى الله؛ فكل مسلم مطالب أن يحاسب نفسه، لابد أن يكون للمسلم ساعة يقف فيها مع نفسه يحاسبها، كما يحاسب الشريك شريكه على أمور الدنيا.
فضل محاسبة النفس:
ويذكر د. محمود عبدالعزيز يوسف أستاذ الفقه بجامعة الأزهر أن محاسبة النفس ترتقي بأداء الإنسان مع ربه فهو يخاطب نفسه في خلوة ويهذبها كأن يقول لنفسه: ويحك يا نفس، تتزينين للناس بالأعمال الصالحة الظاهرة، فإذا خلوتي يا نفس بينك وبين الله في السِر بارزتي الله جل وعلا بالمعاصي.
ويذكر في كتابه القيم "رمضان فرصتك" ما جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر غدًا بين يدي الله تعالى».
محاسبة النفس دليل إيمانك:
ويستطرد أن
محاسبة النفس علامة من علامات الإيمان، فالمؤمن يحاسب نفسه، والفاجر لا يحاسب نفسه، المؤمن يحاسب نفسه ليرى نعم الله جل وعلا عليه حينما يحاسب نفسه ويسأل نفسه، فإنه يتأمل في نعم الله جل وعلا التي أنعم الله بها عليه: مثل نعمة السِتر، ونعمة العافية.
ثم بعد ذلك يرى ذنوبه الكثيرة فيشكر الله جل وعلا على النعم التي أنعم الله جل وعلا بها عليه، ثم يستغفر الله جل وعلا من هذه الذنوب التي وقع فيها، لما حاسب نفسه رأى نعم الله، ورأى الذنوب التي وقع فيها، فيراجع نفسه فذلك أدعى أن يسيء الإنسان الظن بنفسه.
لأن النفس لو أحسنت الظن بها لقادتك إلى العُجب، وقادتك إلى ترك الطاعة وترك العبادة، لأنك تحسن الظن بها أما لو أسئت الظن بنفسك لألجمتها وأمسكت زمامها بطاعة الله جل وعلا، فأنت تقود نفسك وهي لا تقودك.
السلف ومحاسبة النفس:
ويذكر أن السلف الصالح يحاسبون أنفسهم محاسبة الشريك الشحيح، وهذا أحد الصالحين حفر حفرة في بيته، إذا وجد في نفسه حبًا للدنيا وتعلقًا بها وزهدًا في الآخرة وتركًا لها، ووجد نفسه بعدت عن طاعة الله جل وعلا، نزل تلك الحفرة وأخذ يصرخ ويصيح: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، ويكررها، ويظل يصرخ ويصيح حتى يعرق الجسد ويجهد أشد الإجهاد، ثم بعد ذلك يدفع الخشبة برجله التي كانت تغلق عليه الحفرة ثم يخرج منها يقول لنفسه: ها أنت يا نفس قد عدتي فاعملي ما قلتي.
ولذا قال بعض السلف: (من كثرت محاسبته لنفسه في الدنيا، خف عليه الوقوف غدًا بين يدي الله تعالى في الآخرة، ومن ترك محاسبة نفسه في الدنيا يوم القيامة يطول به المقام في عرصات القيامة) فلا يرى إلا الذنوب، ولا يرى إلا هذه التبعات.
فيا أيها الناس حاسبوا أنفسكم الآن على ما تقدمونه، فإن الله تعالى يقول: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾، ويقول أيضًا: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ﴾.
والله جل وعلا يقول على لسان لقمان عليه السلام: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ..﴾ أي أن الله تعالى يعلم كل شيء، يسمع دبيب أرجل النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
فإذا كان الأمر كذلك فليحاسب الإنسان نفسه، والله جل وعلا يقول: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، والله جل وعلا يقول: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾، فإذا كان الأمر كذلك فلم لا يحاسب الإنسان نفسه، والعمر يمر بنا سريعًا، وهذه الدنيا إلى زوال، وغدًا سنكون في القبر، فلنعد لهذا السؤال جوابًا.
قصة الفضيل بن عياض:
لقي الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له الفضيل: كم عمر الآن؟ " قال: ستّون سنةً، قال: " فأنت منذ ستّين سنةً تسير إلى ربّك توشك أن تصل"، فقال الرّجل: يا أبا عليٍّ، (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)، قال له الفضيل: " هل تعلم معناها؟ " قال الرّجل: قلت: (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)، قال الفضيل: " تعلم ما تفسيرها؟ " قال الرّجل: فسّره لنا يا أبا عليٍّ، قال: " قولك إنّا للّه، تقول: أنا للّه عبدٌ، وأنا إلى اللّه راجعٌ، فمن علم أنّه لله عبد، وأنّه إليه راجعٌ، فليعلم بأنّه موقوفٌ، ومن علم بأنّه موقوفٌ فليعلم بأنّه مسئولٌ، ومن علم أنّه مسئولٌ فليعدّ للسّؤال جوابًا، فقال الرّجل: فما الحيلة يرحمك الله؟ قال: يسيرةٌ، قال: وما هي؟ قال: " أن تحسن فيما بقي، يغفر لك ما قد مضى وما قد بقي، فإنّك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
الله أكبر، أن تحاسب نفسك على الذنوب التي ارتكبتها فتستغفر الله جل وعلا، أن تحاسب نفسك على العمر الذي يمضي دون طاعة أو عبادة أو ذِكر.
وأذكر هنا أن بعض الصالحين سأل نفسه وقد بلغ من العمر ستين سنة، فقال: ستين سنة! يعني ما يقارب ٢٢ ألف يوم، فقال: لو أني ارتكبت في كل يوم ذنباً لكان عندي أكثر من عشرين ألف ذنب، فكيف سيكون حالي حين أذنب ذنبين أو ثلاثة أو عشرة في اليوم الواحد إلى مئة ذنب في اليوم الواحد! فبكى بكاء شديدًا حتى أُغشي عليه.
الله أكبر، هؤلاء هم الذين يحاسبون أنفسهم بحق، يقول: عُمري ستون سنة، ولو أني كل يوم أذنب ذنباً لكان في يوم القيامة عندي أكثر من عشرين ألف ذنب! فكيف لو أذنبت في اليوم الواحد عشر ذنوب أو مئة ذنب، فكيف سيكون حالي غدًا بين يدي الله تعالى!
نماذج لمحاسبة النفس:
ويضيف د. محمود عبد العزيز هذا أحد الصالحين يقول: (والله لو كانت للذنوب رائحة لما استطاع أحد أن يجلس إلى جواري)، فكل عاقل نفسه ويقول: ويحك يا نفس تحبين المدح، وتحبين الثناء، وتحبين أن تحمدي بما لم تفعلي، ماذا أنت قائلة غدًا بين يدي الله تعالى؟ الأمر جد خطير، لابد من محاسبة النفس، ولابد من إرغام النفس وإذلال النفس لله تعالى، لأننا غدًا موقوفون، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ غدًا سيطول بنا المقام بين يدي الله تعالى، فيسألنا عن كل كبيرة وصغيرة، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾.