ممن يتتبع سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم يجدها مليئة بالدروس والعبر والفوائد الجليلة فما من موقف يمر بالنبي إلا ويكون له فيه بصمة لو تدبرناها نفعتنا وما قال كلمة إلا وفيها مخرج لنا من ضيق فكلامه ليس ككلام عامة الناس: "وما ينطق على الهوى إن هو إلا وحي يوحى..".
حلم النبي وحكمته:
وتعاملاته صلى الله عليه وسلم كلها حكم لا سيما في جانب الأخلاق التي زكاه فيها ربه سبحانه وتعالى حين قال: "وإنك لعلى خلق عظيم"، وفي معرض الكلام عن أخلاق النبوة الفاضلة نقف وقفة يسرة لموقف من مواقف النبي نتعلم كيف تعامل فيه بحكمته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فأغلظ له، فهَمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لصاحب الحق مقالاً، فقال لهم: اشتروا له سِنَّاً (جملاً) فأعطوه إياه، فقالوا: إنا لا نجد إلا سِنّاً هو خير من سِنِّه، قال: فاشتروه فأعطوه إياه فإن من خيركم ـ أو خيركم ـ أحسنكم قضاء) رواه مسلم. ولفظ البخاري: (دعوه، فإن لصاحب الحقِّ مقالًا).
الرسول ومكارم الأخلاق:
ويعلق المباركفوري على موقف النبي في السباق فيقول: "(فهمَّ به أصحابه) أي: أراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذوه بالقول أو الفعل، لكن لم يفعلوا أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم، (دعوه) أي: اتركوه ولا تزجروه"، ويؤخذ من الحديث: "جواز المطالبة بالدين، إذا حلَّ أجله. وفيه: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظم حلمه وتواضعه وإنصافه. وأن من عليه دَيْن لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق والإساءة إليه لمطالبته، فإن له مقالاً، لكن بالآداب الشرعية.. وفيه أن الاقتراض في الأمور المباحة لا يعاب، فكيف في البر والطاعة؟.. وفيه حسن القضاء، وأنه يستحب لمن عليه الدين، من قرض وغيره أن يرد أجود من الذي عليه، وهذا من السنة ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرض جر منفعة فهو منهي عنه"،
وقد اشتمل الحديث على عدة فوائد منها حلم النبي مع هذا الرجل الذي أغلظ له القول في طلبه لدينه: حُسْنُ خُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم، وحلمه الذي اتسع حتى جاوز العدل إلى الفضل مع من جهل عليه، وعفوه عمن أساء إليه، وإحسانه إليه، قال الله تعالى: وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصِّلت:34)، قال السعدي: "أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخَلق، خصوصاً من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه.
السماحة خلق نبوي:
ولقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم بصفة عامة بالإحسان والسماحة مع الآخرين لا سيما في المعاملات المالية؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله عبدًا سمحاً (سهلا) إذا باع, سمْحاً إذا اشترى, سمحاً إذا قضى, سمحاً إذا اقتضى (طلب حقه)) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب حقاً، فليطلبه في عفاف وافياً أو غير واف)، وقد تكل الله تعالى بلطفه لمن حال بينه حائل منعه من سداد ما عليه أن يوفي عنه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.