خصَّ الأمةَ الإسلامية بكثير من مواسم الخير، ومن هذه المواسم ليلة النصف من شعبان، فيُستحبُّ صيامُ نهارها، وقيام ليلها، والتقرب إلى الله فيها بالذكر والدعاء.
يقول الله تعالى: "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143 البقرة).. قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144).
امتحان عظيم للأمة الإسلامية، أنزله الله من فوق سبع سموات، وجعل فيه النبي هو نائب هذه الأمة في الإجابة على هذا الامتحان في الالتزام بأوامر الله ونواهيه.
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان يستقبل بيت المقدس ، وبقي على ذلك ستة عشر شهراً ، كما ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال صلّى النبي صلى الله لعيه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت الحرام (مكة) .
التسليم لأمر الله
والمسلم إذا أتاه الأمر من الله وجب عليه قبوله والتسليم له وإن لم تظهر لنا حكمته، كما قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم … ) الأحزاب 36 .
ولا يحكم الله سبحانه وتعالى بحكم إلا لحكمة عظيمة وإن لم نعلمها كما قال تعالى : (ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ) الممتحنة 10 ، وغيرها من الآيات، كما أنّ الله سبحانه وتعالى لا ينسخ حكماً إلا إلى ما هو أفضل منه أو مثله ، كما قال تبارك وتعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) . سورة البقرة 106 .
وكان من حكمة الله عز وجل في تحويل القبلة في ليلة النصف من شعبان، امتحان المؤمن الصادق واختباره ، فالمؤمن الصادق يقبل حكم الله جل وعلا ، بخلاف غيره ، وقد نبّه الله على ذلك بقوله : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله …) البقرة 143 .
ومع الحكمة في الامتحان كانت الفضل أن هذه الأمة هي خير الأمم ، كما قال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس … ) آل عمران 110 ، وقال تعالى في ثنايا آيات القبلة : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً … ) البقرة 143 .
فالله عز وجل اختار لهذه الأمة الخير في كل شيء والأفضل في كلّ حكم وأمر ومن ذلك القبلة فاختار لهم قبلة إبراهيم عليه السلام .
وفي حديث السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل الكتاب : ( إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة ، التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ).
كما أن تحويل القبلة كان إيذانا باستقلال الأمة الإسلامية في كل شؤون حياتها وأن أهمية شهر شعبان تأتي من ذكرى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، حيث يعتبر الحدث عنواناً لوحدة المسلمين ودليل منزلة نبينا عند ربه، وأعظم مآثر ليلة النصف من شعبان.
فبعد استقبال القبلة قال المسلمون سمعنا وأطعنا وآمنا به كل من عند ربنا وقال المشركون "كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع لديننا واليهود قالوا خالف قبلة الأنبياء ولو كان نبيا لاستمر فى صلاته إلى قبلتهم والمنافقون قالوا ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى على حق فقد تركها وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل ورد الله عليهم بقوله: «سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم» سورة البقرة الآية 143.
اقرأ أيضا:
يتعامل النبي مع المخطئين بطريقة رائعة.. تعرف على جانب مضيء من دعوته بالرفق واللبينحكمة التشريع
ومن حكمة التشريع في تحويل القبلة، إن البيت العتيق الذي رفع قواعده نبي الله إبراهيم ونبي الله إسماعيل عليهما السلام هو قبلة أهل الأرض كما أن البيت المعمور قبلة أهل السماء.
واقتضت حكمة الله أن يجتمع الموحدون على قبلة واحدة فأمر خليله إبراهيم، عليه السلام، ببناء البيت العتيق ليكون مثابة للناس وأمنا ومصدرا للإشعاع والنور الرباني ومكانا لحج بيته المعظم يأتيه الناس من كل فج عميق .
ومن حكم ومقاصد تحديد القبلة أن المقصود من الصلاة حضور القلب والحضور لا يحصل إلا بالسكون وترك الالتفات والحركة وهذا لا يتأتى إلا باستقبال جهة واحدة على التعيين وأن الله عز وجل خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله تعالى: «وطهر بيتي» وخص المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه في قوله تعالى: «يا عبادي» والإضافتان للتكريم والتخصيص فكأنه جل شأنه يقول ان المؤمن عبده والكعبة بيته والصلاة خدمته فالمؤمن يقبل بوجهه في خدمة ربه إلى بيته وبقلبه والتوجه إلى الكعبة المشرفة من مظاهر ووسائل وحدة المسلمين.
وودت أحاديث كثيرة صحيحة في فضل صوم شهر شعبان ومنها عن عائشة- رضي الله عنها: لم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم- يصوم من شهر أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله وفي رواية أخرى كان يصوم شعبان إلا قليلا. وروي عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» وقال: «انه شهر تكتب فيه الآجال فأحب أن يكتب أجلي وأنا صائم» وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان فأحب إحياءه» لكن لم ترد أحاديث صحيحة في تعيين صوم يوم النصف من شعبان أما الدعاء المقبول في هذه الليلة الكريمة فيجب الدعاء بالعناية واستمداد المعونة وإظهار الافتقار إلى الله والبراءة من الحول والقوة وإظهار الذلة البشرية لله تعالى وأن يكون دعاء هذه الليلة فيه معنى الثناء على الله وإضافة الجود والكرم إليه قال تعالى: «وقال ربكم ادعوني استجب لكم».