حين لا تشبع من الدنيا، أو تكتفي بشيء من ملذاتها، ودائمًا ما تبحث عن الزيادة، ولا ترضى بما قسمه الله لك، في هذا التوقيت تأكد أنك محروم، رغم ما تمسك به من المال وتكتظ به خزائنك، ويحتوي عليه بيتك، فقد يفتقر بعض الناس رغم ما يملكونه من أموال إلى أقل القليل مما في أيدي المساكين، فالفقير الحقيقي هو من يشعر بالحرمان، وهو من يشعر بالرغبة بتملك كل شيء، حتى ولو كان شيئًا زهيدًا ليس له قيمة أمام ما يملك من كنوز وأموال، لكنه لا يشبع ولا تتوقف رغباته عند ما في يديه مهما بلغ، ولكن يمتد نظره إلى ما في يد غيره.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس)) رواه البخاري.
ومعنى الحديث هو أنه ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيراً ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه؛ فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي، وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فهذا هو الغني.
قال القرطبي رحمه الله: إنَّ الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفَّت عن المطامع، فعزَّت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة، والشرف والمدح؛ أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور، وخسائس الأفعال؛ لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل.
والغني هو من يكون قانعاً بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب، ولا يحلف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، وعلى العكس منه فقير النفس، لكونه لا يقنع بما أُعطي، بل هو أبداً في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغن بما أُعطي، فكأنه ليس بغني، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عند الله خير وأبقى فهو معرض عن الحرص والطلب.
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقةكيف يحصل الغنى؟
لا يحصل الغني بجمع المال؛ فإنه لا يزداد بذلك إلا فقراً، وهذا وإن كان يمكن أن يراد لكن الذي تقدم أظهر في المراد، وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره، فيتحقق أنه المعطي المانع، فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غيره وبه تعالى، والغنى الوارد في قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}(الضحى:8).
ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع)).
قال النووي رحمه الله عن قوله: ((ومن نفس لا تشبع)): "استعاذة من الحرص والطمع والشَّرَه، وتعلق النفس بالآمال البعيدة".
وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة أبا ذر رضي الله عنه: ((يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟)) قلت: نعم يا رسول الله! قال: ((أفترى قلة المال هو الفقر؟)) قلت: نعم يا رسول الله! قال: ((إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب)).
وفي رواية: ((يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغنى؟ إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها)).
وقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطيباً في الناس على المنبر يقول: "إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه".