يتباهى بعض الناس بفظاظة تعبيراتهم وقسوة قلوبهم في التعامل مع الغير، معتبرين أن فظاظتهم التي تصل لقلة الذوق هي من باب الصراحة والصدق، غير متسائلين: " كيف يصل بك الحال أن تصارح أحدًا حينما تقول له أنت إنسان قبيح الوجه، أو سيئ الخلق، أو أنك لا تحب أن تجلس معه لأنه سيئ السمعة؟"، معتبرا نفسه جاء من بين الملائكة ليهبط على الأرض، وما سواه عبارة عن مجموعة من العصاة الذين لا يستحقون شرف الحديث معه.
وقد ضرب الله مثلاً لنبيه صلى الله عليه وسلم على أثر فظاظة القلب، حينما وصفه بحسن الخلق قائلاً: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ".
فلو كان النبي فظا لانفض الناس عنه، ولكن بلينة قلبه ورحمته وكلامه الطيب، وهي الصفات التي جعلها الله في نبيه، أسر الله الناس لنبيه بهذه الأخلاق الكريمة: " وإنك لعلى خلق عظيم".
الكلمة الطيبة صدقة
فإن كان طريق الأداء هو الكلام، فليس من الحكمة أن يلجأ المتكلم إلى الألفاظ الخشنة الوعرة، فإن القول الحسن أبعد لنزغ الشيطان، وأقرب لقبول الحق، بل لقبول المَقُولِ مطلقاً.
ورأى بعض الملوك كأن أسنانه قد سقطت، فعبرها له معبر بموت أهله وأقاربه، فأقصاه وطرده، واستدعى آخر فقال له: لا عليك، تكون أطول أهلك عمراً، فأعطاه وأكرمه وقربه، فاستوفى المعنى، وغير له العبارة، وأخرج المعنى في قالب حسن".
لذلك حسن الخلق واختيار الألفاظ، باب عظيم اعتنى به أصحاب العقول الراجحة من الأكابر والعلماء، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر خبر بعض الخلفاء وقد سأل ولده - وفي يده مِسْواك - ما جَمْعُ هذا؟ فقال: (محاسنك) يا أمير المؤمنين. قال: "وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ، وهو باب عظيم, اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السنة، وهو من خاصية العقل والفطنة".
و عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يعس المدينة بالليل, فرأى ناراً موقدة في خباء, فوقف وقال: (يا أهل الضوء). وكره أن يقول: يا أهل النار. وسأل رجلاً عن شيء: (هل كان)؟ قال: لا، أطال الله بقاءك, فقال: (قد علمتم فلم تتعلموا، هلا قلت: لا وأطال الله بقاءك)؟.
وسئل العباس: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر مني, وأنا ولدت قبله. وسئل عن ذلك قباث بن أشيم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه.
وكان لبعض القضاة جليس أعمى، وكان إذا أراد أن ينهض يقول: يا غلام اذهب مع أبي محمد ولا يقول: خذ بيده، قال: والله ما أخلَّ بها مرة.
قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الإسراء: 53].
فالشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضاً بغير التي هي أحسن، فقد تنشب حرب أهاجها القبيح من الكلام، وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي, ولكن ليقل: لقست نفسي)، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ (الخبث) لبشاعته وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه.
وفي القرآن من ذلك طرف مأثور مثلوا له بقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا ﴾ [البقرة: 235]، وقوله: ﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ﴾ [النساء: 43]، وقوله: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75].
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكناية عما يقبح التصريح به، وهو ميله إلى التعريض عوضاً عن التصريح في بعض مقامات الإنكار.
أثر الكلمة كبير
الكلمةُ الطيبةُ أثرها كبير، فهي بوابة القلوب،قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24 - 25].
وبالكلمة الطيبة تنال مطالب الآخرة فهي أسهل طريق لجني الحسنات، ورفع الدرجات، وحط السيئات، ودخول الجنات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة)ن وقال الله تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10].
والكلمة الخبيثة بعكس ذلك، تمجها الآذان، ويظلم منها الوجدان، فكم قطعت أسباباً، وفرقت أحباباً، وأسخطت الخالق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم).
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقة