هل صادفت يومًا وأنت ذاهب بعد صلاة الجنازة لدفن أحد أقاربك، الذي يشترك معك في قبر العائلة، أن نظرت لفتحة القبر، وتعمقت خلال النظر في المكان الذي ستدفن به، تعمقت في نومك الأخير بهذا المكان بين الدود والتراب، حينما يحملك أهلك على ظهورهم، ثم يضعونك في هذه الحفرة، ويتركونك وحيدًا في هذا المكان المقفر، ويمضون إلى أعمالهم، حيث لا مغيث لك ولا منقذ لك من هذا المكان إلا عملك؟.
هل سرحت وجلت بخاطرك واستغرقت في التفكير بهذه اللحظة، التي تكون فيها مسكينا ضعيفا لا تحرك ساكنا، وأنت ملفوف بقطعة من القماش والتفت الساق بالساق، كيف ستمضي عليك أوقاتك في هذا المكان الموحش، وماذا ستفعل وأنت تراهم يغلقون عليك هذه الفتحة الموحشة من القبر بقطعتين من الحجارة، ويحكمون غلقها عليك، بشكل مؤكد، حتى لا تفوح رائحتك من هذا القبر؟.
هل شعرت بفزعة كبيرة وارتجفت ضلوعك؟ وأنت تفكر ماذا سيحدث لك حينما يظلم عليك القبر بعد أن يغلقونه عليك، وتصبح وتمشي في عتمة دائمة ومستمرة خالدة، حتى يشاء الله أن يبعثك من جديد للحساب يوم القيامة؟، وهل فكرت من هو أنيسك ومؤنسك في هذا المكان المقفر المظلم الموحش الذي لا يوجد به إلا الدود والثعابين، ومن ينقذك إذا صرخت ولا مغيث لك، ومن يرد عليك إذا ناديت ولا مجيب لك.
هذه المقدمة المكتوبة التي تتفكر معك في هذه اللحظات العصيبة عند نزولك القبر، لا تساوي 1% من تفكيرك أنت وأنت واقف أمام قبرك تفكر بنفسك كيف سيصير حالك فيها، ومن ينقذك ومن سيكون معك وماذا ستفعل، وكيف ستمضي لياليك التي ليس لها أول من أخر.
إنها الحقيقة الكبرى، كُلُّ حَيٍّ سيفنَى، وسينزل هذا القبر في هذا المكان الموحش، حيث لا صريخ له، ولا مؤنس له إلا عمله وقرآنه الذي يحفظه.
لحظات لا نفكر فيها رغم أنها الحقيقة الباقية والخالدة والحتمية لكل إنسان فينا، يسير في دروب الحياة، ويتقلب على هذه الأرض.
فكم نحن بحاجة إلى وقفة وانتفاضة مع النفس، نزيل عنها غبار الغفلة والذنوب!.
حقيقة الموت، حقيقة مرة، يغفلها الناس، قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [آل عمران:185].
الحقيقة الكبرى، كل حيٍّ سيفنَى، فقد ذهب العمر وفات، وأنت أسير شهواتك، ومضى وقتك، بينما أنت على معصيتك حتى قيل: مات.
فكم أصبحنا كل يوم على خبر أو رسالة، أن فلانًا مات، وقد كان في كامل صحته وعافيته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مِن اقتراب الساعة أن يرى الهلالُ قُبُلاً فيقال لليلتين، وأن تُتَّخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة" .
روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال: من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا مَن لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت؟! قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعدَّ بعد؟! قال: يا داود، أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!.
قسوة غير عادية
ومن المروع في خضم ما شرحناه، أن تجد أكثر المشيعين للجنازة، بدلا من أن يتفكروا في لحظاتهم االعصيبة، تراهم وقد أعمت الغفلة عيونهم وأصمت آذانهم وجعلت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، فكم من قريب دفناه، وكم من حبيب ودعناه، ثم نفضنا التراب من أيدينا وعدنا إلى دنيانا، لنغرق في ملذاتها، وترى بعض المشيعين يضحكون ويلهون، أو يكونون قد حضروا رياء وسمعة؛ بسبب الغفلة وقسوة القلوب.
قال تعالى (وجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19].
ينتظر الإنسان في غفلته حتى نزلت به السكرات، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون إليه وهم عن إنقاذه عاجزون، (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ) [الواقعة:83].
وينقسم الناس عند الموت وشدته، والقبر وظلمته، وفي القيامة وأهوالها، ينقسمون إلى فريقين: أما الفريق الأول فحالهم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِلْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
أما الفريق الثاني من الكفار والفجار، فحالهم: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ واَلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام:93].
اظهار أخبار متعلقة
أكثروا من ذكر هادم اللذات
كانت أهم وصية للنبي صلى الله عليه وسلم: "أكْثِروا من ذكر هادم اللَّذَّات، فما ذكره أحد في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعَه، ولا سَعَةٍ إلا ضيَّقَها".
وقيل: مَن أكثر ذكر الموت أُكْرِمَ بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة؛ ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم للاستيقاظ من الغفلة : "فوالله الذي لا إله غيره! إن أحدكم لَيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
ولما حضرت محمدَ بن المنكدر الوفاة بكى، قيل له: ما يُبكيك؟ قال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم.
فكفى بالموت واعظاً! ولو كان الأمر سينتهي بالموت لَهَان الأمر، لكنه مع شدته وهوله أهون مما يليه من القبر وظلمته، وروى الترمذي، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه، كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبرَ أولُ منازل الآخرة، فإنْ نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت منظرا قطُّ إلا القبرُ أفظعُ منه".
فالقبر أول منازل الآخرة، فإن كان من أهل الجنة عُرض له مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار عُرض عليه مقعده من النار، ويُفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه نوراً ونعيماً إلى يوم يبعثون؛ وأما الكافر فيُضرَب بمطرقة من حديد، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرٍ فقال: "مَن صاحب هذا القبر؟" فقالوا: فلان، فقال: "ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم"، وفي رواية قال: "ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم".
فالقبر صندوق العمل، وكل ما وضعت في الصندوق سيكون معك بعد موتك، زر قبَرك في الأسبوعِ مرهً، في الشهر مرة، ثم قل: هذا فراشي، ومسكني الأخير هذه داري، سأسكنها وحدي، هل وضعتُ فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وحسرة؟.
وإذا زرت المقبرة فقف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك. فماذا تتمنى في هذه اللحظة؟ .
قال تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر:56-58].