حين يموت الناس تكون قبورهم هي بيوتهم إلى بعثهم، وفيها من الدنيا أنها على الأرض يراها الناس، وفيها من الآخرة أن أحوال أهلها في النعيم والعذاب كأحوال أهل الجنة والنار.
وظلمة القبر وفتنته وعذابه أفزع الموقنين، وأضجر المعتبرين، فما فارقهم التفكر فيه، والاعتبار به، والخوف منه، والعمل له؛ فسهر المتهجدون، وظمئ الصائمون، ولهج الذاكرون، وألح الداعون. قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ" رواه مسلم.
ويُعذب أناس في القبر بكبائر قارفوها في الدنيا، وينجو آخرون من عذاب القبر بهداية الله تعالى لهم إلى أعمال صالحة سبقتهم إلى قبورهم فمهدتها لهم، فوجدوا راحتهم فيها حين سكنوها.
والناس يفتنون في قبورهم فيسألون عن ربهم ونبيهم ودينهم، فلا يثبت في الفتنة، ولا يلقن الإجابة إلا من ثبته الله تعالى، وهم أهل الإيمان والعمل الصالح ﴿ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ ﴾ [إبراهيم:27] فعلم أن الإيمان والعمل الصالح منجيان من فتنة القبر.
ويقول الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل إن هناك العديد من الأسباب والوسائل التي تنجي من عذاب القبر ويذكر 7 منها:
1-الاستقامةوالاستقامة على أمر الله تعالى سبب للنجاة من عذاب القبر ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصِّلت:30] قال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى: البشرى تكون في ثلاث مواطن: عند الموت وفي القبر وعند البعث. ﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ [فصِّلت:31] أَيْ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ: نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا نُسَدِّدُكُمْ وَنُوَفِّقُكُمْ، وَنَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الْآخِرَةِ نُؤْنِسُ مِنْكُمُ الْوَحْشَةَ فِي الْقُبُورِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَنُجَاوِزُ بِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَنُوصِلُكُمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
2-المحافظة على الفرائض والنوافلوالمحافظة على الفرائض، وإتباعها بالنوافل، مما ينجي من عذاب القبر؛ لأن ذلك تمام العمل الصالح، جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ... " قال: "وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ..." صححه ابن حبان.
3- الجهاد في سبيل الله
ومن الأعمال الصالحة التي تنجي من عذاب القبر: الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لقوله سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الصَّف:11] والعذاب الأليم في الآية عام؛ فتكون النجاة بالجهاد من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر ومن عذاب يوم القيامة.
4-الموت على الشهادة
والشهادة في سبيل الله تعالى سبب للأمن من عذاب القبر، فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن للشهيد خصالا عند الله تعالى، وذكر منها: وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ.
5-الرباط في سبيل الله
وكذلك الرباط في سبيل الله تعالى سبب للنجاة من فتنة القبر، كما في حديث فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ "رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وجاء في سورة الملك أنها منجية ومانعة، تنجي من عذاب القبر، والظاهر أن ذلك لمن يكثر قراءتها، ولا سيما أنه قد جاء في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" رواه أحمد.
6-الموت بداء البطن
والموت بداءٍ في البطن سبب للنجاة من عذاب القبر، وهذا من فضل الله تعالى على المرضى؛ فإن أمراض البطن كثيرة ومؤلمة. قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَقْتُلُهُ بَطْنُهُ، فَلَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ"رواه أحمد.
7-الدعاء والتعوذ
ومن أهم أسباب النجاة من عذاب القبر: الدعاء، وقد كثر تعوذ النبي عليه الصلاة والسلام من عذاب القبر، ففي الصلاة يتعوذ منه كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ" رواه الشيخان. وجاء في حديث أبي هريرة أنه يدعو بذلك بعد التشهد، وهو موطن دعاء.
ولما صلى بهم صلاة الكسوف وَانْصَرَفَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
وفي صلاة الجنازة دعا للميت فقال: وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ رواه مسلم.
ويتابع الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل في "الألوكة" فيقول: وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم الاستعاذة من عذاب القبر كما يعلمهم القرآن، وما ذاك إلا لأهمية الاستعاذة بالله تعالى منه؛ لشدة عذابه وفتنته، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ قُولُوا: "اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ" رواه مُسْلِمُ في صحيحه ثم قال: "بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لِابْنِهِ: أَدَعَوْتَ بِهَا فِي صَلَاتِكَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: أَعِدْ صَلَاتَكَ".
وكان مع تعليمهم الدعاء يعظهم ويخوفهم عذاب القبر، كما في حديث زَيْدِ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟" فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟ " قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ" ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ... الحديث". رواه مسلم.
وإذا أتى العبد بكل الأسباب المنجية من عذاب القبر وفتنته كان حريا أن ينجيه الله تعالى من عذاب القبر وفتنته، وإذا قصّر في المنجيات من عذاب القبر، وأتى بأسباب العذاب فيخشى عليه من عذاب القبر، فعلى المؤمن أن يجانب ما يوبقه، ويجتهد فيما ينجيه.
اقرأ أيضا:
الفرق بين الكرم والسفه.. بطون المحتاجين أولىاقرأ أيضا:
لو عايز تبقى مع النبي في الجنة.. داوم على هذه الأمور تكون رفيقًا له