اعلم أن نفس ابن آدم مختصرة من العالم، وفيها من كل صورة في العالم أثر منه، لأن هذه العظام كالجبال، ولحمه كالتراب، وشعره كالنبات، ورأسه كالسماء، وحواسه مثل الكواكب.
وأيضا فإن في باطنه صناع العالم، لأن القوة في المعدة كالطباخ، والتي في الكبد كالخباز، والتي في الأمعاء كالقصّار- الصباغ-
والمقصود أن تعلم كم في باطنك من عوالم مختلفة كلهم مشغولون بخدمتك، وأنت في غفلة عنهم، وهم لا يستريحون، ولا تعرفهم أنت، ولا تشكر من أنعم عليك بهم.
أعظم اللذات
اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خلق له، فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة.
ولذة القلب خاصة بمعرفة الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى لأنه مخلوق لها.
فائدة:
وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به، مثل لعبة الشطرنج، إذا عرفها فرح بها، ولو نهى عنها لم يتركها ولا يبقى له عنها صبر. وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفرح بها، ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأن لذة القلب المعرفة.
وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر. ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف الملك لكان أعظم فرحا.
وليس موجودا أشرف من الله سبحانه وتعالى، لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم آثار صنعته، فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته، وليس منظر أحسن من منظر حضرته.
وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس، وهي تبطل بالموت.
ولذة معرفة الربوبية متعلقة بالقلب، فلا تبطل بالموت، لأن القلب لا يهلك بالموت، بل تكون لذته أكثر، وضوؤه أكبر؛ لأنه خرج من الظلمة إلى الضوء.
اقرأ أيضا:
هل القلوب تصدأ .. وما الفرق بين "الران" و" الطبع" على القلب؟معرفة تركيب الجسد
يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي: " ومنافع الأعضاء التي يقال عنها في علم التشريح، وهو علم عظيم، والخلق غافلون عنه، وكذلك علم الطب. فكل من أراد أن ينظر في نفسه وعجائب صنع الله تعالى فيها يحتاج إلى معرفة ثلاثة أشياء من الصفات الإلهية:
1-أن يعرف أن خالق الشخص قادر على الكمال، وليس بعاجز، وهو الله سبحانه وتعالى. وليس عمل في العالم بأعجب من خلق الإنسان من ماء مهين، وتصوير هذا الشخص بهذه الصورة العجيبة، كما قال سبحانه وتعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه)، فإعادته بعد الموت أهون عليه، لأن الإعادة أسهل من الابتداء.
2- معرفة علمه سبحانه وتعالى، وأنه محيط بالأشياء كلها، لأن هذه العجائب والغرائب لا تمكن إلا بكمال العلم.
3- أن تعلم أن لطفه ورحمته وعنايته متعلقة بالأشياء كلها، وأنها لا نهاية لها، لما ترى في النبات والحيوان والمعادن من سعة القدرة وحسن الصور والألوان.