يتأثر بعضنا سلبًا بالبيئة المحيطة به، والمثل الدارج يقول أن الإنسان ابن بيته، وقد يندفع أحدنا بمبررات كثيرة حول شخصيته وعيوبه، بأنه جبل عليها نتيجة بيئته وظروفه وعائلته، فيتذرع بقوله: "ماذا تانتظر من بائع المخدارات غير أنه ينجب تاجر مخدرات مثله أو ماذا تنتظر من البلطجي؟ هل سينجب طبيبا أو أستاذا في الجامعة ".
وعلى الرغم من أن هناك بعض الناس التي تتأذى مشاعرهم من البيئة التي يحيون فيها، إلا أنهم يستسلمون لها، وينقاضون إليها، فيفعلون الخطأ ولا يحاولون أن ينتفضوا ضده، ويتسابقون في خلق المبررات لإبعاد اللوم عنهم، فلا يكن هناك من سبيل في إصلاحهم، لطالما أنهم مقتنعون بأنهم ضحايا وليس عليهم ذنب في أنهم خلقوا وسط بيئة غير صالحة.
كيف أنتفض؟
كان إبراهيم -عليه السلام- ذكي الفؤاد، صائب الرأي، ثاقب الفكر، وجد قومه يعبدون الأصنام فلم يوافق على هذه الوثنية، ورفض عقله أن يعبد صنما لا ينفع ولا يضر، فأخذ يبحث عن ربه، فتارة يظنه القمر وتارة يظنه الشمس، وظل هكذا حتى هداه الله عز وجل بهدايته لعبادته.
فأراد إبراهيم أن يهدي قومه، ورأى أن الحجة القولية والبرهان اللفظي لم يعد يجدي معهم، فأراد أن يوقف قومه على صدق دعوته وحقيقتها، علّهم يتوبون إلى رشدهم ويرجعون عن غيّهم، فاستدرجهم إلى مجادلته، واستنزلهم إلى محادثة، فسألهم: ماذا تعبدون؟! فأفاضوا الحديث في شأن أصنامهم، وأطالوا في جوابهم، معزين بعبادتها وقالوا: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) [الشعراء:71] أي خاضعين.
كان إبراهيم ملهمًا في سؤاله، فقال: هل يسمعونكم إذا دعوتموهم، أو يسمعونكم أو يبصرونكم، وهل ينفعونكم أو يضرونكم؟! حقًّا إنه كيد الشيطان وما أعظمه، حيث استدرجهم إلى أن يقلدوا آباءهم في الكفر وعبادة الأصنام والشرك بالله، وزين لهم عبادة التماثيل، وما أشد جهلهم حين اعتقدوا أنهم على حق، بل جادلوا من أجل نصرة مذهبهم، وما أوهى ما نطقوا به وما أجابوا به، فقالوا له: (وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:53]
أقروا بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تملك ضرًّا ولا نفعًا، واعترفوا بأنهم ما عبدوها إلا اقتداءً بأسلافهم، واتباعًا لآبائهم، فكانوا بذلك بعيدون عن التفكير السليم، فقال لهم إبراهيم: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء:54] فقالوا له: أتنتقص آلهتنا وتسب أصنامنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟! فقال لهم إبراهيم: بل أنا جاد لا هازل، قد جئتكم بالدين القويم، وأرسلت إليكم بالهدى دين الحق المبين، فإن ربكم المستحق للعبادة هو رب السماوات والأرض ومدبر شؤونهما، أما هذه الأصنام فهي حجارة صماء تنفع ولا تضر، فعليكم أن تجتنبوا عبادتها، واحذروا فتنة الشيطان وإغواءه، وفكروا بعقولكم، وانظروا بأبصاركم لعلكم تهتدون، (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء 77 : 82].
نواميس الكون تغيرت لإبراهيمولما رجع المشركون من عيدهم ورأوا ما فعله إبراهيم وحل بمعبوداتهم، وتساءلوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:59]عند ذلك قال قائلهم: سمعنا فتى يذكر آلهتنا ويعيب عبادتنا ويزدريها ويحتقرها يقال له: إبراهيم، فهو المجترئ عليها والمحطِّم لها، فاعتزموا أن يوقعوا به أشد العقاب لما ارتكب من جرم، وثارت ثائرة القوم ونادوا بأن يأتوا به على أعين الناس ليشهدوا عليه بمقالته، ويروا ما يحل به من القصاص.
بدأ المشركون محاكمة إبراهيم أمام جموع الناس وقالوا له: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) [الأنبياء:62] فلما سنحت له الفرصة للإجابة جرّهم بأسلوبه الحكيم إلى طريق لم يقصدوه ليلزمهم الحجة، فيرجعوا إلى صوابهم ويتوبوا إلى رشدهم، فقال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء:63] ثم قالوا: لقد علمت -يا إبراهيم- أنها لا ترد سؤالاً، ولا تحير صوابًا، فكيف تأمرنا بسؤالها؟! أقروا بعجزها عن الإجابة وعدم قدرتها على أن تصد المعتدين عليها، فأخذ يبكتهم على جهلهم، ويتأفف من ثباتهم على الباطل بعد وضوح الحق، ثم قال لهم: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء66 :67]
فلما لم تقم لهم حجة عدلوا عن الجدل والمناظرة وعمدوا إلى القوة يسترون بها هزيمتهم، ويخفون بها باطلهم، وقالوا: (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء:68]
فلما أرادوا أن يحرقوه بالنار حصلت المعجزة وتغيرت نواميس الكون من أجل إبراهيم: "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)".