منْطق الإنسان الذَكِّي ومنطق الإنسان الذي يبْحث عن مصالِحِه العُلْيا، أن يعرف كيف يحقق هذه المصالح، وأين يجد ضالته، في حين لا ينظر الإنسان المتسرع العجول إلا تحت قدميه فقط، فيخسر ما يطمح إليه، فالدنيا أحْقر من أن تُحْرم منها ؛ تأتيك وهي ذليلة، وقد أوْحى ربُّك للدنيا أنَّه من خَدَمني فاخْدُميه، ومن خَدَمَكِ فاسْتَخْدميه.
والإنسان إذا جاءه ملَكُ الموت، ظنَّ أنَّ الدنيا شيء ثمين فإذا هي غثاء لا شيء فيها بِمالها ونِسائِها، فكم من إنسان خَدَمَ جِهَة ثمَّ خاب ظَنُّه ؟ وكم من إنسان أنْفق ماله وخَسِر ؟ وكم من إنسان أنْشأ علاقات ولم تُثْمِر هذه العلاقات ؟ أيَّةُ جِهَة أرْضِيَّة قد تُخَيِّبُ ظنَّك، وقد توقِعُكَ في الإحباط إلا أنَّ الله عز وجل يقول: أيُّ جُهْدٍ وأيُّ وقْتٍ وأيُّ مالٍ وأيُّ حركةٍ وصِلَة وأيُّ ذهابٍ وإيَّاب، وأيُّ منْعٍ أو إنفاق، وأيُّ صِلَةٍ أو قطيعَةٍ إذا ابْتَغَيْتَ بها وجْه الله فإنَّك سوف تُلاقيها أضْعافاً مُضاعفة، أي تكون تاجِراً مع الله تعالى، والله عز وجل أرادك أن ترْبح عليه أرْباحاً طائلة وإياك أن تُتاجِر مع سِواه فإنَّ خاسِرٌ لا محالة.
ولقد ضرب أمير المؤمنين عثمان بن عفان المثل في الذكاء وفي التاجر "الشاطر"، حينما عرف أن المكسب الحقيقي في التجارة مع الله، فقد جاءَتْهُ ستُّ مائة ناقة مُحَمَّلة بالبضائِع من الشام، وهي تُعادل سِتُّ مائة شاحنة الآن ! وكُلُّها له، فجاءه التُّجار، فدفعوا له سِعْر فقال: دُفِعَ أكثر، ورفعوا السِّعْر فطلب أكثر إلى أن طلب سِعْراً غير معْقول، فقالوا: هذه ليْست تِجارة، فقال: من الذي دفع أكثر قالوا: الله تعالى، فقال: هي لِوَجْه الله تعالى .
وكان ذاك العام عام مجاعة، لذلك تاجِر عثمان مع الله وبِإخْلاص ومن دون ضَجَّة، والله تعالى يُعَوِّض عليك أضْعافاً كثيرة.
اظهار أخبار متعلقة
فالإنسان مادام علاقته مع الله والمصير إليه تعالى عليه أن يُحَسِّن علاقته معه، كثير من المُوَظَّفين لهم ذكاء زائِد، ويُحاول أن يسْتطْلع، من الذي سوف يأتي بعد المُدير الحالي، فإذا عرِفَ من فإنَّهُ يقيم علاقات طَيِّبَة، زيارات وهدايا يقول لك: أُرَكِّز وضْعي معه وهذا منْطق الإنسان الذَكِّي ومنطق الإنسان الذي يبْحث عن مصالِحِه العُلْيا، فأنت مصْلحتك الكبرى مع الله، وممكن أن تُقيم علاقتك معه الآن ؛ علاقة طَيِّبة بِخِدْمة عِباده والنُّصْح لهم وطلب العلم ونشْر العلم وحمْل النفْس على طاعته.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ...)، «سورة الصف: الآيات 10 - 11».
تجارة لن تبور
يعلمنا القرآن الكريم أن التجارة مع الله أفضل التجارات الرابحة في الدنيا والآخرة، وأخبرنا جل وعلا أن هناك ثلاث تجارات مع الله، كتاب الله، والصلاة، والصدقات، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)، «سورة فاطر: الآيات 29 - 30».
ذكر الله تعالى في الآيات السابقة إن الذين يقرأون كتاب الله الذي أنزله على نبيه، وأقاموا الصلاة المفروضة في مواقيتها، وأنفقوا مما رزقهم الله في السر والعلن، وتصدقوا بما منّ عليهم من الأموال سراً وعلانية، وأدوا الزكاة المفروضة، وتطوعوا بالصدقة، فإن هؤلاء المؤمنين يرجون من وراء ذلك تجارة رابحة مع الله تعالى لن تبور.
وجاء في الآية لفظ «تجارة» مع وصفها بعدم البوار على سبيل الاستعارة التصريحية، فوصف أهلها بأنهم يرجونها، أي يتوقعون أرباحها.
اقرأ أيضا:
أعظم وصية نبوية..وسيلة سهلة لدخول الجنةالمتاجرة مع الله
فانظر إلى مثال على التجارة مع الله في شيئ يسير على كل مسلم فينا يقرأ وردا من القرآن الكريم كل يوم، و لا يحتاج أكثر من دقائق معدودة، فمن قرأ حرفاً فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: «ألم» حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» والقرآن شافع لصاحبه يوم القيامة، صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه»، لذلك أخبر الله في كتابه أن من عباده من عقدوا صفقات الربح والفلاح معه، بخلاف أناس باعوا أنفسهم للضلال والانحراف والهوى، يقول جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى? مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...)، «سورة التوبة: الآية 111».
ويقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)، «سورة البقرة: الآية 207».
فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: "نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وكان ذا مالٍ يُتاجر به، فلما اعترضوه عرَض عليهم عرضًا، وقال لهم رضي الله عنه وأرضاه: "إنكم لتعلمون أني من أشد الناس إصابةً في الرمي والسهام، فإن شئتم أن أُخلي بينكم وبين مالي، وتُخلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهاجر إليه، وإما أن أنثر كِنانتي وأرميكم سهمًا من وراء سهم، ثم أبارزكم بالسيف"، فخلوا بينه وبين الهجرة، وأخذوا كل ماله الذي استبقاه لوجه الله جل وعلا، فلما أقبل على المدينة، قابله الصحابة منهم أبو بكرٍ رضي الله عنه وقال له: "ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب".